حبل الكذب قصير
النادي الملكي للأدب والسلام
حبل الكذب قصير
بقلم الشاعر المتألق : ماهر اللطيف
حبل الكذب قصير
بقلم: ماهر اللطيف 🇹🇳
حدّقت دلندة طويلًا في وجهه، كأنها تحاول أن تلتقط شرارة صدق واحدة تختبئ في عينيه، فلم تجد سوى جدارٍ باردٍ من الفراغ. ارتجفت يدها، وكادت ترتفع لتصفعه صفعةً تنزع عنه ما تبقّى من أقنعة، ثم هبطت ببطء، كمن تخلّى عن آخر رغبة في المقاومة.
أطبقت على أسنانها، واحمرّ وجهها، وسرت في جسدها حرارةٌ راكدة تخرج من قلبٍ موجوع، لا من غضب. التفتت حولها، بحثت عن كلمةٍ واحدة تشفي خذلانها، لكنها أدركت أن الصمت، هذه المرّة، أكثر إيلامًا من كلّ الشتائم.
بصقت عند قدميه وقالت بصوتٍ خفيضٍ لكنه : «لعنةُ الله عليك».
استدارت ورحلت. وما إن أُغلق بابُ سيارة أختها حتى انفجر ما حاولت كبته: بكاءٌ حارّ، نحيبٌ مكتوم، دعاءٌ متقطّع، وشتائم تخرج بلا ترتيب.
وضعت انتصار يدها على كتفها برفق وقالت: – سيزول هذا، صدّقيني… الحمد لله أنه سقط قبل أن يسقطكِ معه.
– (بين دموعها) لقد قتل شيئًا فيّ… ذبحني وأنا أمشي.
– سيمنحكِ هذا درسًا لا تنسينه.
– لا أرى طريقًا… الظلمة تملؤني.
كانت انتصار تحدّثها كأنها تلمّ روحها المبعثرة، بينما دلندة تزداد انكفاءً على وجعها، ثم تعود لتعيد الحكاية من بدايتها، للمرة الرابعة، كأن تكرارها محاولة لفهم ما لا يُفهم.
بدأت القصة. أمام مدخل مسرح المدينة، حين داس محرز على حذائها تلك الليلة. صاحت في وجهه بلا رحمة، وهو يعتذر بإصرار غريب، يكرّر أسفه كلما تصاعد صوتها. لم يكن المشهد يوحي بأي علاقة، لكن من تلك الشرارة الصغيرة اشتعل حبٌّ سريع، متسرّع، كالنار التي تلتهم ما حولها قبل أن تنتبه لنفسها.
ثم جاءت الخلافات، صغيرة في ظاهرها، كبيرة في أثرها. ثم جاءت الأكاذيب، مطلقة، متناسلة، كأن الكذب كان هواءه الطبيعي. قدّم نفسه ثريًا من عائلة مرموقة، صاحب شركات وأملاك لا تُعدّ. صدّقته دلندة لأن القلب أراد أن يصدّق، لا لأنها لم ترَ الشك.
ومع مرور الأيام، صار عقلها يطلّ من نافذته الصغيرة، يذكّرها أن الضوء لا يأتي من الظلال مهما تعمّق الحب. ولما ضاقت بها الريبة، لجأت إلى أختها، وبدأت الخطة.
انتظرتاه قرب مقهى المحطة. رأتاه يدخل ويخرج متوترًا، كمن يفتّش عن هروبه الأخير، ثم غادر. تبعتاه حتى استقلّ سيارة أجرة أوصلته إلى مدينة مجاورة. هناك، عند مبنى مهجور، اختفى عن الأنظار.
تسلّلتا خلفه. في الداخل، كان يخلع ثيابه النظيفة ويرتدي ملابس باهتة ممزّقة. لفّ رجله بقطعة قماش ليبدو مبتورًا، وضع نظارات سوداء، أمسك عصًا خشبية، ثم خرج متسوّلًا، يمشي كمن يحمل العالم فوق كتفيه.
ذُهلتا. كانت الحقيقة أوسع من مجرد كذب… كانت حياةً كاملة بُنيت على الوهم.
قررتا إبلاغ الشرطة. اقتربت دلندة منه أولًا، ووقفت أمامه في شارعٍ يعجّ بالمارة. تجمّد، ونظر إليها بعينين تهربان من النظر.
ألقت في يده قطعةً نقديةً وقالت بنبرة ناعمة لكنها جارحة: «هذه لابن الأصول… صاحب الشركات».
لم يجب. لم يعد يملك حتى كذبةً ينقذ بها نفسه. وما إن همّت بمتابعة كلامها حتى دفعها رجالُ الأمن جانبًا وأمسكوا به.
تراجعت خطوةً إلى الوراء، وشعرت بشيءٍ خفيف ينسحب من صدرها… كأن الهواء عاد يمرّ للمرة الأولى منذ زمن.
توثيق : وفاء بدارنة


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق