الخميس، 25 ديسمبر 2025


♦️ثمار الغابة المنسية♦️(قصة 1)

النادي الملكي للأدب والسلام 

♦️ثمار الغابة المنسية♦️(قصة 1)

بقلم الكاتب المتألق : محمد الشريف

♦️ثمار الغابة المنسية♦️(قصة 1)

أوقف سيارته عند تخوم غابةٍ غامرة، حيث تتشابك شجيرات الشماري والبطوم والعرعار كأنها أسرارٌ مكتومة في صدر الأرض.. ترجل منها بخطواتٍ مترددة، كمن يعود إلى بيتٍ قديمٍ هجره دهراً، وفي عينيه بريقُ شوقٍ إلى ثمرةٍ لم يذقها منذ ثلاثة عقود أو يزيد.  

كان رجلاً أسمر البشرة، على وجهه علامات الصحراء التي صقلته بالشمس والرياح، وفي ملامحه أثرُ الترحال الطويل بين الكثبان والواحات.. هو ابن الصحراء، لكنه عرف هذه المواطن يوماً، وسكنها في شبابه، قبل أن تعيده الرمال إلى دياره البعيدة، ومع ذلك، لم تفارقه هذه الغابة؛ بقيت تسكن ذاكرته كما يسكن الطيف قلب الحالم.  

كان الهواء مشبعاً برائحة التراب المبتلّ، والنسيم يمرّ بين الأغصان كأنّه أنينُ الزمن.. مدّ يده إلى شجيرة شماري، فإذا بثمارها تتوارى عنه كما لو كانت تعرف غربته الطويلة، وتعاتبه على هجره.. ابتسم وهو يتذكر أيام الصبا، حين كان يجمع القعمول رغم وخزات أشواكه، ويستلّ بصيلات الكراث البري كمن يقتنص كنزاً صغيراً من باطن الأرض.  

لكن الغابة لم تكن كما تركها؛ فقد بدت له أكثر اتساعاً، كأنها نمت في غيابه لتخفي أسراراً جديدة.. وبينما كان يتوغل في دروبها، لمح نوراً خافتاً يتلألأ بين الشجيرات، أقرب إلى وهجٍ يخرج من قلب الأرض، اقترب، فإذا به يرى ثمرة شماري متوهجة، بحجمٍ لم يعرفه من قبل، كأنها جمرةٌ من ياقوتٍ أخضر.. مدّ يده إليها، فارتجفت الأرض تحت قدميه، وانفتحت أمامه فجوةٌ صغيرة، كأنها بابٌ إلى زمنٍ آخر..  

تردد لحظة، ثم غلبه الفضول، فانحنى ودخل.. فإذا به يجد نفسه في الغابة ذاتها، لكن قبل ثلاثين عاماً؛ الأشجار أكثر شباباً، والثمار أكثر وفرة، والنسيم يحمل أصوات رفاقه الذين كانوا يضحكون وهم يتسابقون إلى جني القعمول.. رأى نفسه هناك، شاباً يافعاً، يضحك بملء قلبه، يمد يده إلى ثمرةٍ ويأكلها بشغفٍ لم يعرفه منذ زمن.  

وقف مشدوهاً، يتأمل صورته القديمة، كأنما الزمن أهداه مرآةً من لحمٍ ودم.. حاول أن ينادي، لكن صوته لم يصل.. وحين مدّ يده ليلمس كتف ذلك الشاب، تلاشى المشهد فجأة، وعاد إلى الغابة كما هي الآن، صامتةً، متعبةً، تحمل آثار السنين.  

في يده بقيت ثمرة الشماري المتوهجة، لكنها سرعان ما ذابت بين أصابعه، تاركةً عطراً غريباً يملأ المكان.. عندها أدرك أن الغابة لم تمنحه ثمرةً ليأكلها، بل ذكرى ليحيا بها.. ابتسم وهو يهمّ بالعودة إلى سيارته، وقد شعر أن ثلاثين عاماً من الغياب قد اختُزلت في لحظةٍ واحدة، وأنه لم يفقد شبابه، بل خبأته الغابة في قلبها لتعيده إليه حين يشتد الحنين.  

✍️ #محمد_الشريف

توثيق : وفاء بدارنة 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق