**بين أحضان الكؤوس**
النادي الملكي للأدب والسلام
**بين أحضان الكؤوس**
بقلم الشاعر المتألق: رفعت رضا
بقلم الشاعر رفعت رضا
*** بين أحضان الكؤوس ***
سَكِرتُ ولم أشرَبْ من الخمرِ،
فما سُكرُ الخمرِ أمامَ خَمرِ عينيكِ؟
قد أُمرتُ بالنسيانِ،
فنسيتُ النسيانَ ولم أنسَكِ.
يا ساقي الخمرِ، اسقِني،
واملأ كأسِي، فلعلَّهُ يدومُ،
ليكونَ صديقي في ليلي،
ويرافقني في همّي.
فأين لاحتِ الكؤوسُ؟
هَلْ هربَتْ من الأحزانِ؟
فالخمرُ تُسكرُ، والقهوةُ توفيقٌ،
وما أنا بين الهوى ساكورا.
بالعشقِ ضيّعتُ يقيني،
وما من قهوةٍ لتوفيقِ،
فالخمَّاراتُ والحواني
باتتْ بيتًا لجروحِ الزمانِ.
فلا وقتَ ليُداوي الألمَ،
ولا ترياقَ غيرَ الخمرِ أصدَقُ،
فما كأسٌ بيدي يَلوحُ،
وما الوفاءُ لغيرِ الخمرِ.
صديقُ الليلِ والنهارِ،
فها الدنيا تدورُ بالحكاياتِ،
وأنا هنا أتَّكئُ على الكرسي،
لأُشاهدَ ما بها من أفلامٍ.
فصندوقُ الدنيا بعَجَبِه
يحوي ألألفَ الرواياتِ،
وما ذَكرَ روايتي،
وأجابَ عن السؤالِ:
روايتي بلا داعٍ!
فالنهايةُ مطموسةٌ،
والأحلامُ مشقوقةٌ بين الركامِ،
وقد حُرِقَ فؤادُ البطلِ بنارِ الهجرِ،
فلِمَ يَودُّ سماعَها الناسُ؟
فلا سامعَ غيرَ الكأسِ،
الذي ذاقَ طَعمَ الشفاهِ،
وقد أَدمَنتُ الخمرَ،
فلا علاجَ من النبيذِ.
ولا حاجةَ للشفاءِ،
فقط ركنٌ هادئٌ وساقٍ
يُجيدُ سُقيا الناسِ،
ليُسقيني حُممًا حمراءَ.
لأتذكَّرَ الأحاديثَ والعُهودَ،
فهيّا، اسكبْ لي كأسًا،
فقد فرغَ كأسِي،
ولم أَشبَعْ من الخمرِ.
فلم أُنْهِ لهوَ حكاياتِ العشاقِ.
فكلُّ قصةٍ تسكرُني قبلَ المِسكِ والآهاتِ،
وكلُّ قبلةٍ سُرقتْ من الذاكرةِ
تغنّي على وترٍ قُطِعَ من العُمرِ.
فيا ساقي، لا تَتَوانَ،
واسقِني نسيانًا بنكهةِ الذكرى،
لعلِّي أُطفئُ نارًا
أوقدَها وجهي في مِرآةِ الغيابِ.
قَد كَفَرْتُ بالعقلِ،
وآمنتُ بأنَّ الجنونَ سبيلُ العاشقِ،
فلا صحوَ بعدَ ليلِكِ،
ولا نورَ بعدَ خمرِ عينيكِ.
خُذني حيثُ لا صوتَ إلا تنهيدةٌ،
ولا ضوءَ إلا وهجُ الحنينِ،
واجعلْني قصةً تُروى في خمّارةٍ،
بلا كاتبٍ ولا قارئٍ،
فقط كأسانِ وشاعرٌ يَذوبُ في الحُروفِ.
أأقولُ انتهيتُ؟ لا والله،
ما دامَ في القلبِ نبضٌ من وجْدِكِ،
فكلُّ سُكرٍ من سُكرِكِ،
وكلُّ حُزني—من وعدِكِ.
فاسكبْ، اسكبْ ولا تَخشَ لومي،
فقد صِرتُ عبدًا في محرابِ الكأسِ،
أتأملُ دورانَها كما يدورُ الفلكُ،
وفي قاعِها أقرأُ طالعَ العُشّاقِ.
يا خمري، يا سرَّ ضَلالي،
كيفَ تُحسنينَ الهربَ من عقلي؟
كلُّ رشفةٍ منكِ صلاةٌ
تُغنيني عن كلِّ مواعظِ الزُهدِ.
أعانقُ الكأسَ كأنّها امرأةٌ
تحفظُ وجعي وتبوحُ بسرّي،
وفي دفءِ زجاجِكِ أذوبُ،
فلا أرضٌ تحتَ قدميّ،
ولا سماءَ إلا شفتاكِ!
أتلعثمُ بلغتي عندَ حضوركِ،
وتَصحو بي لغاتُ الأنينِ،
فالخمرُ لا تُسكرُ الجسدَ فقط،
بل توقظُ ما خَدَرَهُ الحنينُ.
وها أنا أكتبُ نشيدي لكِ،
بلا وزنٍ ولا قافية،
بل بنبضِ السكرِ،
الذي يجعلُ من القلبِ شاعرًا،
ومن الهمِّ سيمفونيةَ اشتياقٍ.
فاشربْ معي يا مَن تجلسُ قبالتي،
واسقِنا غيابًا لا نفيقُ منهُ،
نضحكُ على العقلِ،
ونُغنّي للجنونِ،
فنحنُ أبناءُ الكأسِ،
ورُسُلُ اللذّةِ التي لا تُعصى.
فدعنا نُكمِلُ، فالليلُ طويلٌ،
والكأسُ ما زالَ نصفَهُ حنينٌ،
ونحنُ سُكارى، لا نطلبُ صحواً،
بل نُريدُ غرقاً في نعيمِ التيهِ.
تأتيني الكؤوسُ تباعاً،
كأنَّ الزمانَ قرّرَ أن يُجامِلَني،
وفي كلِّ رشفةٍ، أنسى اسمي،
وأتذكَّرُ مَن علّمني كيفَ أضيعُ.
يا خمري، يا نارًا لا تُحرق،
ويا ماءً لا يُروى به العطشُ،
كيفَ تجمعينَ التناقضَ في زجاجة؟
وكيفَ تُنبتينَ في قلبي وردَ الهلاكِ؟
أرى الأحلامَ ترقصُ أمامي،
عذارى العشقِ بغيرِ ملامح،
يُنادينني بأسمائهنّ
ثم يذُبنَ كما يذوبُ الثلجُ في الدفءِ.
وأسيرُ، لا وجهةَ لي إلا كأسٌ جديدة،
ولا رفيقَ إلا صدى صوتي المُترنِّح،
فمن يلومُ مَن اتّخذَ من الخمرِ وطنًا؟
ومن الكأسِ قلبًا، ومن النشوةِ حياةً؟
كأنّي مخلوقٌ لا يَعرفُ السُكرَ إلا من عينيها،
ولا يَشربُ إلا إذا تذكّرَ وعدًا قديمًا،
ولا يكتُبُ إلا إذا خانَهُ البكاءُ،
فكانَ الحبرُ نبيذًا،
والسطرُ نَشوةً،
والقصيدةُ خمرًا.
فدعني أُكمِلُ الجنونَ يا ساقي،
واسقِني حتى يضيعَ اللومُ،
فأنا شاعرٌ من نسلِ الوجعِ،
وما عُدتُ أُؤمنُ بغيرِ الكأسِ نبيًّا.
فاسقِني، ما دامَ الليلُ يتنهّدُ،
وما دامتِ الأرواحُ تُحسنُ العزفَ على وجعي،
فأنا نبيُّ الكأسِ في معبدِ الضياعِ،
أُصلّي برشفةٍ، وأُكفّرُ عن ذنوبي بضحكةِ سكرٍ.
كلُّ رشفةٍ تُعيدُ لي ملامحَها،
وجهُها يلوحُ في سطحِ النبيذِ،
وعطرُها يتسلّلُ من فُوّهةِ الزجاجةِ،
فكأنّني أضمّها كلما شربتُ.
أيا ساقي، ما أعذبَ خمرَك!
تُحييني وتقتلني، وتجمعني بي،
أشربُ فأتجزّأُ شظايا من قلبٍ،
وأرتّقُني بقُبلةٍ من ذاكرةٍ معتّقة.
دعِ الزمنَ يلعنُ صمتي،
ودعِ الناسَ تقرأُ هذياني،
فما عُدتُ أُجيدُ الحديثَ إلا بكأسٍ،
ولا أُجيدُ البكاءَ إلا على طاولةٍ خشبية.
تكلّمتُ مع الليلِ كثيرًا،
حكيتُ له عن وجهٍ غابَ،
عن قَسَمٍ انكسرَ في الحُبِّ،
وعن أنثى علّمتني كيفَ يُشرَبُ الألمُ.
فالخمرُ وحدها أنصفتني،
لم تَسألني: لماذا؟
لم تُعاتبني على السهرِ،
بل احتوتني،
وأنا طفلٌ ضائعٌ في حضنِ الكأسِ.
أيا كأسًا، لا تفنى،
ويا نبيذًا، لا تَبردْ،
كن وطنًا لا يخذلني،
وكن قبرًا أدفنُ فيهِ عقلي.
وها أنا أكتبُكَ يا نبيذي،
لا كقصيدةٍ، بل كوصيّةِ عاشقٍ خُلِقَ من نارٍ،
ففيك وحدك أهربُ من جدرانِ الذاكرةِ،
وفيك أُرمِّمُ شروخَ الروحِ المُنهكةِ.
دعهم يقولون: تاهَ الشاعرُ،
دعهم يَهْزَؤونَ من سُكرِه،
فهم لم يذوقوا طَعمَ أن تُحبَّ أنثى
تَسكنُ كأسَك وتُشعلُ وجدانَك.
أشربُك،
لا لأَنْسى، بل لأتذكّرها بكلِّ تفاصيلِها،
ضحكتُها، عِطرُها، صوتُها حينَ تهمسُ:
"لا تشربْ كثيرًا"
وها أنا أشربُ لأُثبتَ لها أنني ما زلتُ أعصاها.
يا ساقي، هاتِ الكأسَ الأخيرة،
لكن لا تَملأها للنهاية،
اتركْ فيها فراغًا صغيرًا،
لدمعةٍ قد تسقطُ دونَ إذنٍ،
أو تنهيدةٍ لم تجدْ طريقَها إلى القصيدة.
قد تشفَّفتُ بالخمرِ حتى صارتْ دمي،
واختلطتْ بالأبياتِ والنغمِ،
فإذا متُّ، لا تضعوا على قبري وردًا،
بل كأسًا، ودفترًا، وقنينةَ حني
بقلم : رفعت رضا
توثيق: وفاء بدارنة