غرباء في زحام الحياة
النادي الملكي للأدب والسلام
غرباء في زحام الحياة
بقلم الشاعرة المتألقة: نور شاكر
غرباء في زحام الحياة
قصة قصيرة
بقلم:نور شاكر
في ساحةٍ مكتظّة بالوجوه والضجيج كانت تشعر أنّها تسير وسط حقلٍ مترامي الأطراف من البياض لم يكن البياض لونًا حقيقيًا، بل كان إحساسًا بالخواء، بتلاشي التفاصيل، وبأنّ كلّ شيء حولها أصبح بلا ملامح الناس يتحرّكون كأنّهم أوراقٌ متشابهة تتقاذفها ريحٌ خفيفة، كلماتهم متشابهة تتردّد كصدىً باهت، وابتساماتهم أيضًا، تبدو وكأنها استعارةٌ مستهلكة لمشاعر لا يجرؤ أحدٌ على التعبير عنها، بدا المكان أشبه بصلاةٍ طويلة لا تنتهي، صلاةٍ يومية يمارسها البشر بآليةٍ مفرغة من الروح، حيث لا يعلو سوى صوت التكرار
وفي وسط هذا البحر من التشابه، لمحتْه لم يكن مجرد وجهٍ آخر يمرّ من أمامها، بل كان استثناءً صارخًا مثل وردةٍ وحيدة تنبت في غير موسمها، كانت ملامحه حقيقية وبارزة، لا تخضع لقانون البياض الذي ساد المكان كان غريبًا مثلها، لا يشبه أحدًا؛ عيناه مختلفتان كأنهما تعترفان بظلٍّ لا يزول، ظلٍّ عميق يحمل قصصًا لم تُروَ بعد لم يكن في حضوره ضوضاء، بل صمتٌ يشبه الاعتراف، صمتٌ يقول:
"أنا هنا، أرى ما لا يرونه، وأشعر بما لا يشعرون به"
لم تتردّد للحظة، وكأنّ يدًا خفية جمعت بين وردةٍ بيضاء، تائهة في بحر البياض، ووردةٍ سوداء، ترفض أن تكون جزءًا من هذا المشهد اقتربت منه بخطى ثابتة ووقفت أمامه دون أن تنطق بكلمة بدأت القصة بنظرةٍ، نظرةٍ طويلةٍ ومليئةٍ بالأسئلة، ردّ عليها هو بنظرةٍ أخرى تقول: "لا بأس، أنا أفهم."
تحدّثا قليلًا، ولكن كلماتهما كانت ثقيلة المعنى، ليست ككلمات الآخرين العابرة تحدّثا عن الطمأنينة التي يبحث عنها الجميع ولا يجدها، وعن النقاء الذي يختبئ في قلوب الغرباء تحدّثا عن حزنٍ لا يريد أن يذوب، حزنٍ يلتصق بالأرواح الحساسة كظلها، ويزيدها عمقًا وجمالًا في الوقت نفسه كان لقاؤهما قصيرًا، لا يتجاوز بضع دقائق، لكنه كشف لهما أنّ للحياة وجهين: وجهٌ صافٍ يضيء ليمنح الأمل، ووجهٌ مظللٌ يذكّر بأنّ النور ثمين وأنّ الحزن هو ثمن الوعي
كان عليهما أن ينفصلا لم يكن هناك سببٌ مقنعٌ للبقاء، ولم يكن هناك سببٌ يمنع الرحيل افترقا كما التقيا؛ غريبين وسط الزحام، ولكن هذه المرة لم يكونا تائهين عادا إلى بحر الوجوه المتشابهة، يحمل كلٌّ منهما في قلبه يقينًا بأنّ الغرباء، حتى لو اجتمعوا لحظة، لا بدّ أن يعودوا غرباء من جديد ولكن هذا اليقين لم يكن مؤلمًا، بل كان مطمئنًا فلقد اكتشفا أنّ الغربة ليست حالةً من الوحدة، بل هي حالةٌ من الوعي، وأنّ الأرواح التي ترى الظلّ والنور معًا، لا يمكن أن تضيع أبدًا، حتى لو سارت وسط حقلٍ مترامي الأطراف من البياض
لقد أصبحا الآن يملكان سرًا مشتركًا، سرّ اللقاء الذي لم يتكرر وكلما عادا إلى نفس الساحة، كان كل منهما يلتفت خلسةً يبحث عن الوردة الأخرى، ليس ليجدها
بل ليتأكد من أنها كانت موجودة حقًا.
توثيق: وفاء بدارنة


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق