الأحد، 7 ديسمبر 2025


 أنا مثلك… بالإنسانيةĺ

النادي الملكي للأدب والسلام 

 أنا مثلك… بالإنسانية

بقلم الكاتب المتالق : سالم حسن غنيم

 أنا مثلك… بالإنسانية

في إحدى ضواحي عمّان، كان يعيش شاب يُدعى محمّد ياسين.

لم يكن الناس يعرفونه من هيئته فقط، بل من صوته الدافئ، كنافذة تُفتح على ضوء لا يُرى.

محمّد… كان كفيف البصر.

لكن أحدًا لم يستطع يومًا أن يقنعه أنه “أقل” من غيره، أو أنه يعيش على هامش الحياة.

منذ طفولته، كانوا يكررون أمامه نفس الجملة:

> "أوروبا أفضل… أوروبا النموذج… لو أنك ولدت هناك لكان مستقبلك مختلفًا."

كان يستمع بصمت، لا غضبًا ولا اقتناعًا، بل بدهشة.

أيّ نموذج هذا الذي نخجل أمامه؟ ولماذا لا نكون نحن نموذجًا يُحتذى، بدل أن ننتظر الآخرين ليعلمونا كيف نصبح بشراً؟

كبر محمّد، وكبرت معه الأسئلة.

في بلد متعب مثل الأردن — بضوئه المتقطع، وشوارعه غير المهيأة، وصعوباته التي لا ترحم — كان الطريق أصعب، لكنه كان أكثر صدقًا أيضًا.

كان يعزف على العود ساعات طويلة، كأن أصابعه ترى ما لا تراه العيون.

ويكتب المقالات بشغف، ينسق التقارير، يعدّ البرامج الإذاعية، ويعمل في المونتاج مستخدمًا كل وسيلة مساعدة تفتح أمامه بابًا جديدًا.

وفي حياته الخاصة، لم ينتظر أحدًا، يطبخ، يرتب بيته، ويؤدي كل أعماله وحده.

كان يقول دائمًا:

> "الإعاقة ليست عجزًا… العجز أن يسمح الإنسان لغيره بأن يعرّفه."

وفي يوم من أيام الشتاء، دُعي محمّد لإلقاء كلمة في احتفال اليوم الدولي للأشخاص ذوي الإعاقة.

صعد إلى المنصّة متكئًا على عصاه، لكن صوته كان مستقيمًا مثل السيف.

قال:

> "نحن لسنا عبئًا… نحن طاقة. نحن جزء من هذا الوطن، كما هو جزء منا."

تحدّث عن الأردن، الوطن الذي يتألم وينهض في اليوم نفسه.

عن الناس الذين يبتسمون رغم الطقس القاسي والضغوط الاقتصادية.

عن أولئك الذين يعبرون الشوارع الوعرة ويواصلون، وكأن قلوبهم لا تعرف الانهيار.


ثم التفت نحو الحضور، وقال بصوت أبعد من القاعة، أبعد من المدينة، يصل إلى كل عربي:

> "لماذا ننتظر أوروبا؟ لماذا نفترض أن التقدّم ملكٌ لهم؟ التقدّم ليس جغرافيا… إنه إرادة. والإرادة تبدأ من الداخل."

سكت قليلاً، ثم أكمل:

"أنا كفيف البصر… لكن بصيرتي مفتوحة. أرى بالوعي، وأمشي بالشغف، وأعرف أنني مثلكم… بالإنسانية. وأقولها لكل عربي: لا تنتظروا الظروف لتتغيّر، غيّروها أنتم. يومًا ما، ستتطلع أوروبا إلينا لتتعلّم منا، لا العكس."

عندما انتهى محمد من كلمته، لم يصفّق الناس فقط، بل وقفوا.

وقفوا لأنهم رأوا في حديثه مرآة لشيء فقدوه منذ زمن: الثقة بأننا نستطيع أن نصنع نموذجنا نحن.

وفي تلك اللحظة، أدرك محمّد شيئًا لم يدركه من قبل:

الإنسان لا يُقاس بما يرى، بل بما يُضيء.

وهو كان… ضوءًا.

بقلم : سالم حسن غنيم
توثيق : وفاء بدارنة 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق