الثلاثاء، 23 سبتمبر 2025


هالة الانكسار، ما بين اليأس والانتظار

النادي الملكي للأدب والسلام 

هالة الانكسار، ما بين اليأس والانتظار

بقلم الشاعر المتألق: إبراهيم العمر 

هالة الانكسار، ما بين اليأس والانتظار

بقلم : إبراهيم العمر.

افتتاحية فلسفية تفتح النص للقارئ كما تفتح مجرّةٌ ذراعها لزائرٍ من ضوءٍ قديم:


في هذا النص، لا نقرأ كلمات، بل نُصغي إلى اهتزازات كائنٍ يتكوّن من الضوء والخذلان. هنا، لا يُقال الشيء بل يُلمَح، لا يُطلب بل يُحتمل، لا يُبوح به بل يُرتّل في صمتٍ كونيّ.

الانكسار ليس نهاية، بل بداية الهالة: ذلك الإشعاع الذي لا يُرى إلا حين تنكسر الذات وتنكشف، حين تصبح الشقوق نوافذ، والألم مرآةً تعكس ما لا يُقال.


بين اليأس الذي يشبه موتًا مؤجّلًا، والانتظار الذي يشبه حياةً معلّقة، يتحرّك هذا النص ككائنٍ يتنفّس في الفراغ، لا يصرخ، بل يهمس.

إنه اعترافٌ لا يُطلب، ووداعٌ لا يُعلن، ووجودٌ لا يلحّ على الحضور.

هنا، الصداقة ليست علاقة، بل مجرّة من المودّة،

والثقة ليست وعدًا، بل استفتاءً روحيًا،

والانسحاب ليس هروبًا، بل طقسًا من طقوس الكرامة.


هذا النص لا يشرح نفسه، بل يفتح نفسه ككائنٍ حيّ،

كأنك تقرأ قلبًا يتأمل ذاته في مرآة الزمن،

كأنك تصغي إلى عصفورٍ على النافذة،

من لمسةٍ يطير، ومن نظرةٍ يذوب،

ومن كلمةٍ يعيد ترتيب كواكب روحه.

—————


أنا لا أطلب شيئًا، لأنني

 لست من هذا العالم الذي يُقايض الكلام بالرغبة.

أنا أفتح كفّي للبوح كما تفتح الأرض صدرها للمطر، دون أن أطالب السماء بشيء.

كل ما يفيض منك، أستقبله كما تستقبل المجرّات الضوء: بمحبة لا تعرف التملّك، وبممنونية لا تُترجم إلى شروط.

أنا لا أوجّه حديثك، بل أتركه يتّجه كما يتّجه النسيم في حضرة الجبال.

وحين يصمت الكلام، لا أستخرجه من أعماقك، بل أتحمّل أعباء الانتظار كما يتحمّل الليل غياب القمر.

أنا لا أريدك أن تتكلمي، بل أن تكوني مرتاحة في صمتك، مطمئنة في غموضك، حرة في ارتباكك.

أنا لا أطلب الثقة، لأن الثقة ليست شيئًا يُطلب، بل كائنٌ يولد في رحم الوقت، في دفء التعامل، في استفتاء الروح حين تهمس: نعم، هذا القلب مألوف.


حين تحدّثتُ عن هالة الوهج التي رأيتها في كلماتك، لم أكن أصف نورًا، بل كنت أصف زلزالًا من المودّة اجتاح كياني.

لقد شعرتُ بالامتنان كما يشعر الكوكب بالدهشة حين يكتشف أنه يدور حول شمسٍ ليست له.

في زمنٍ أصبحت فيه الخيانة من علامات التحضّر، تبدو صداقتك كأنها نيزكٌ من زمنٍ لم يُخلق بعد.


لك مني كل التقدير، وكل الاحترام، وكل المسافة التي تحتاجينها لتتنفّسي.

وحين تشعرين بأنني أصبحت ضيفًا ثقيلاً، أرجوك أن تطلبي مني الرحيل، وسأنسحب كما ينسحب الضوء من وراء الغيوم: بلا سؤال، بلا أثر، بلا وداع.


أنا لا أعيش في الأماكن التي تُقلق، ولا أزهر في التربة التي تُزعج.

سعادتي ليست لي، بل هي انعكاسٌ لما يسعد الآخرين.

أنا مثل عصفور الدوري على النافذة: من لمسة أختفي، من نسمة أطير، من نظرة أعود إلى عزلتي.

لقد تعوّدت على الخيبة كما يتعوّد البحر على الغرق،

تعودت على الغربة التي تعشعش في سراديب روحي كما تعشعش النجوم في سواد السماء،

ولم يعد ذلك يوجعني، بل صار جزءًا من تكويني، كأنني خُلقت من مادة الحنين.


كنت أتهيأ نفسيًا لخيبةٍ جديدة، لكسرٍ آخر في زجاج الروح، لعزلةٍ قد تمتد كفصلٍ خامس لا يعترف به التقويم.

أحيانًا، أضع رأسي بين ركبتيّ وأغيب عن العالم، كأنني أعود إلى رحمٍ لا يعرف اللغة.

كنت أستعد لإعادة بناء الثقة بيني وبين الجدران، لا بيني وبين الناس.

فالمسألة ليست شخصية، بل كونية: تتعلق بالمبادئ، بالأفكار، بالأحاسيس التي تتكسّر كأمواجٍ على صخور الواقع.


ليس سهلًا أن تنسلخ الحقيقة من بين أصابعك، مرةً بعد مرة،

ليس سهلًا أن تصمد أمام الطوفان وأنت ترتدي قلبًا من ورق،

ليس سهلًا أن تحافظ على صوابك في مجتمعٍ يبيع الكذب على أنه فضيلة.

لكن لا بأس، فقد تعلّمت من الحياة أن أكون شجرةً لا تشتكي من الريح.


وقد خالجني شعورٌ، كأنني، دون قصد، لامست جرحًا فيك،

كأنني تسببت لك بنزيفٍ من الأحزان، وأنا لا أملك سوى الاعتذار الذي لا يُقال، بل يُحسّ.

أنا إنسانٌ انفعالي، أذوب من لمسة، أنصهر من نظرة، أغيب من كلمة،

أنسى كل سنوات الجفاء بكلمةٍ واحدة،

أنزلق في بحيرةٍ من الأحاسيس،

أفقد الجاذبية من إيماءة،

ترفرف روحي، ويستأذن عقلي في الرحيل.

———————

خاتمة: صدى الهالة

وهكذا، بعد أن عبرنا مجرّات الانكسار، وتجوّلنا بين كواكب الصمت والبوح،

يعود النص إلى ذاته كما يعود الضوء إلى مصدره، لا ليختفي، بل ليكتمل.


لقد قلنا كل شيء دون أن نطلب شيئًا،

وتحملنا الانتظار كما يتحمّل القلب نبضاته حين لا يأتي الحبيب.

لم يكن هذا النص رسالة، بل طقسًا،

ولم يكن اعترافًا، بل انكشافًا،

ولم يكن وداعًا، بل انحناءة ضوءٍ أمام 

هالةٍ لا تُرى إلا حين تنكسر الروح.


هنا، لا أحد يرحل، بل يتبخّر في المعنى.

ولا أحد يبقى، بل يرفرف في الذاكرة كعصفورٍ لا يُمسك.

هنا، تُغلق النافذة، لا على غياب،

 بل على مجرّةٍ من الضوء،

تظلّ معلّقة في السماء،

كأنها تقول:

أنا لا أطلب شيئًا، أنا فقط كنت هنا،

 كما يكون الضوء حين يمرّ.

بقلم : إبراهيم العمر .

توثيق: وفاء بدارنة 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق