|| أصوات الأشياء المنسية |
النادي الملكي للأدب والسلام
|| أصوات الأشياء المنسية |
بقلم الشاعرة المتألقة: نور شاكر
|| أصوات الأشياء المنسية ||
بقلم: نور شاكر
الراديو....
أنا الراديو، الصندوق الصغير الذي كان نافذتكم الأولى على العالم، كنت أرافقكم في الصباحات الباكرة، أوقظكم على تلاوةٍ عذبة أو أغنية قديمة تحمل دفء البدايات كنت أشارككم المقهى والشارع والمطبخ، أملأ الفراغ بالكلمات والأنغام، وأمنح الوحدة صوتًا يشبه الصحبة
لم أكن مجرد جهاز، كنت رفيقًا صبورًا، لا أطلب منكم سوى أن تديروا قرصي لتجدوني حاضرًا، كنت صوت الحرب وصوت السلام، شاهدًا على التحولات الكبرى والقصص الصغيرة، أواسيكم بأغنية وأربك قلوبكم بخبر عاجل
واليوم، أراقب من بعيد كيف اجتاحتكم الشاشات، وكيف صار العالم يركض أسرع مما أستطيع ما زلت هنا، أخاطب من بقي وفيًّا لصوتي، أتنفس عبر موجات لا تراها أعينكم لكنني أعترف: أشعر بالحزن، لأنني صرت منسيًا في زوايا البيوت، كأنني ذكرى قديمة لا يمد إليها أحد يده أحلم أن يعود أحدكم ليدير المقبض ببطء، باحثًا عني بين الصمت والضجيج.
شريط الكاسيت...
أنا شريط كاسيتٍ منسي، كنت يومًا أنفاس البيوت ورفيق الرحلات كنت أملأ الغرف بموسيقى واعترافات لا يجرؤ أصحابها على قولها بصوت عالٍ، كنت ألتف حول نفسي أدور لأحكي الحكايات مرارًا، أُخدش فأئن، وأتوقف في منتصف أغنية كأنني أختنق بالحنين
اليوم، أقبع في درج مظلم، يغمرني الغبار ويثقلني الصمت لم تعد الأيدي تلمسني، ولا الأقلام تنتظرني لأعيدني إلى الدوران، أسمع من بعيد أصوات الأجهزة الحديثة تملأ الدنيا بلمسة زر، بلا خشخشة، بلا انتظار، بلا روح
أنا لم أمت تمامًا، لكنني انقرضت من قلوبكم صرت ذكرى تُحكى وأثرًا يثير ابتسامة حزينة كلما وجدتموني بالصدفة
كنت أغنيتكم الأولى، وها أنا الآن مجرد صمت ملفوف بشريط أسود هش.
الفانوس...
أما أنا الفانوس القديم، كنت أضيء لياليكم قبل أن يختفي الضوء في كل ركن
كنت أرافق الحكايات تحت الغرف المظلمة، وأهديكم شعور الدفء والأمان، أصغي إلى همساتكم وأسراركم
اليوم، صار جسدي منسيًا على الرف، وزجاجي مغطى بالغبار، لكن روحي لا تزال تبحث عن أيدي صديقة لتشعل الشمع بداخلي، فتعود الليالي حافلة بالقصص والضحكات.
الكتاب...
أنا الكتاب، كنت صديقًا صامتًا، تحملونني بين أيديكم، تلتفون حول كلماتي في كل رحلة وكل عطلة كنت جسرًا إلى عوالم بعيدة وحافظًا لذكرياتكم وحكاياتكم
واليوم، صرت PDF، نسخة رقمية بلا رائحة الورق ولا ملمس الغلاف يمكنكم الوصول إلي بضغطة زر، لكنني افتقد التصفح بالعين الصفحات التي تنثني بين أصابعكم
وأحاديثكم التي كانت تزداد حين يتشارك الناس اكتشاف فصل جديد.
التلفاز ...
أما التلفاز، فقد صار ظلًّا في زاوية الغرفة، نسيتموه بين الشاشات الكبيرة والصغيرة، بين البث المباشر والمحتوى الرقمي، لكنه كان شاهدًا على تجمعاتكم وحكايات الجدة، التي كانت تروي القصص بصوتها الحنون، يلتف حوله الأحفاد والآباء على حد سواء
تلك اللحظات، التي اختلطت فيها القهوة والضحكات والحنين، لن تعود، لكنها بقيت محفورة في ذاكرة الأشياء المنسية.
الرسائل الورقية...
أما أنا الرسالة الورقية، ورقة تحمل نبض القلوب وأسرار الأرواح، كنت رسولًا للكلمات التي لم تجرؤ أصواتكم على النطق بها
كنت أُكتب بالقلم، حرفًا بحرف، وكل خطٍ على صفحتي يحمل توقيع قلبٍ يهتم كنت أحتضن الانتظار، أعيش بين الطيات والظلال وأعرف أن لكل من يفتحني قصة، ولحظة صمتٍ خاصة، قبل أن تُقرأ كلماتي وتُحكى
كنت أركب البريد، أطير بين المدن والقرى أتحمل الرياح والمطر والطرق الملتوية، لأصل إلى من ينتظرني
كنت أفاجئ، أفرح، أواسي، وأحيانًا أوجع
لكن دائمًا كنت أملأ الفراغ بالحنين
واليوم، أقبع في أدراجكم، أو بين دفاتر قديمة، مغطى بالغبار، ونسياني أكبر من ذاكرتي لم تعد الأيدي تكتب لي، ولم تعد العيون تفتش عني بين الطيات. البريد الإلكتروني والرسائل الفورية سرقوا صدى خطواتي، وحرروا الكلمات من انتظارها الجميل
لكنني ما زلت هنا، أحلم بأن يعود أحدهم ليكتب حرفًا لي، ليضعني بين صفحاته، ليُعيدني إلى حياةٍ بطيئة مليئة بالتفاصيل والدفء
أنا الرسالة الورقية، صوت قلبٍ صامت، ونبضٍ منسي، وأملٍ في لقاءٍ قريب بين الأوراق والأيدي
إن كنتم قد نسيتوني، فاعلموا أنني لن أنساكم
لستُ وحدي…
هناك الكثيرون منّا أيضًا، أصوات مهجورة أسماء مقتولة، وأشياء تركت لتتلاشى بين الزوايا، باسم التطور والتكنولوجيا، وباسم عالمكم الجديد، صار كثير منّا مدفونًا حيًّا بين الرفوف، مغيبًا عن الأبصار
يا لروعة هذا الدفن… ويا لبشاعة دفن الأحياء.
بقلم : نور شاكر
توثيق: وفاء بدارنة


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق