الجمعة، 16 مايو 2025


بنية الارتقاء الدلالي في قصيدة "صاعدًا لا أرتوي" للشاعر المغربي الحسن الكامح

النادي الملكي للأدب والسلام 

بنية الارتقاء الدلالي في قصيدة "صاعدًا لا أرتوي" للشاعر المغربي الحسن الكامح

بقلم الناقد المبدع : سعيد محتال 

بنية الارتقاء الدلالي في قصيدة "صاعدًا لا أرتوي" للشاعر المغربي الحسن الكامح

-الإطار الدلالي والجمالي للارتقاء


تعدُّ بنيةُ الارتقاء الدلالي إحدى الركائز الجوهرية التي تُبنى عليها النصوص الشعرية العميقة، حيث تعكس تحوُّلاً وجوديًا أو نفسيا يُجسِّده الشاعر عبر سلسلة من المراحل المتدرجة. وفي هذا السياق، تتجلى هذه البنية في القصيدة موضوع الدراسة كإطارٍ دلالي يُبرز رحلةً انتقالية من حالاتِ السقوط والاضطراب (جحيم الذات) إلى ذُرى التنوير والتحرر (جنان الرقي). تنتظم هذه الرحلة عبر تتابع الأفكار والصور الشعرية التي تُصوِّر انزياح الشاعر من العذاب والضياع نحو البحث عن النور والخلاص.  

ويمكن تفكيك هذه البنية إلى مراحلَ متعاقبة، تُظهر كلٌّ منها تحولاً في الرؤية أو التجربة، مما يُضفي على النصّ طابعاً حركياً يُشبه الملحمات الروحية. وهذا الارتقاء لا يقتصر على المستوى الدلالي فحسب، بل يتجلّى أيضاً في البناء الفني للقصيدة، من خلال الانزياحات اللغوية، وتوظيف الرموز، وتطوُّر الإيقاع. 

من هنا، تبرز أهمية تحليل هذه المراحل لفهم الرؤية الشعرية واستكناه الأبعاد الفلسفية والجمالية التي ينطوي عليها النص.  


ويمكن تقسيم بنية الارتقاء الدلالي إلى عدة مراحل:


1. البداية من الجحيم (حالة السقوط والضياع):

صاعِدًا مِنْ جَحيم الذَّاتِ

إلى جِنانِ الرُّقِيِّ وَحيدًا

والسَّعيرُ يَلُفُّني ولا أرْتَوي

لا ماءَ فِي المَدى يَرْويني

لا مَوْجَ فِي البَحْر يُطهِّرُني 


   - يبدأ الشاعر وصفه من حالةٍ سفلية مليئة بالعذاب والصراع الداخلي، حيث يشعر بأنه محاط بجحيم الذات: "صاعِدًا مِنْ جَحيم الذَّاتِ".

  مما ولّد لديه شعور بالعطش الروحي وعدم الارتواء، حتى من الماء أو البحر، مما يعكس افتقاده للطمأنينة والسلام الداخلي: "لا ماءَ فِي المَدى يَرْويني / لا مَوْجَ فِي البَحْر يُطهِّرُني".


 2. حمل الأنا (الصراع مع الذات):

 صاعِدًا أحْمِلُ صَخْرَةَ الأنا 

عَلى كَتِفِي وبالنَّار أكْتوي 


 - الشاعر يحمل "صخرة الأنا" على كتفيه، وهي رمزٌ لثقل الذات وصراعاتها الداخلية: "صاعِدًا أحْمِلُ صَخْرَةَ الأنا / عَلى كَتِفِي وبالنَّار أكْتوي".

   مرحلة تعكس صراعه مع ذاته، حيث يحاول التحرر من قيود الأنا والوصول إلى حالةٍ أعلى.


 3. البحث عن النور (الارتقاء الروحي):


أبْحَثُ بيْن الغَيْماتِ المُشْرقاتِ 

عنْ وجْهٍ يُشْبِهُني

عَساهُ يَفُكُّ قيْدًا عُمْرًا يُلازِمُني

أبْحَثُ بَيْنَ النَّجْماتِ البَعيداتِ

عَنْ ضَوْء يُنيرُني

عَساهُ يُزيلُ الظُّلُماتِ عَنِّي


يبدأ الشاعر في البحث عن خلاصٍ خارج ذاته، حيث انتقل للبحث عن نورٍ ينقذه من الظلمات، سواء في الغيمات المشرقات أو بين النجوم البعيدات: "أبْحَثُ بيْن الغَيْماتِ المُشْرقاتِ / عنْ وجْهٍ يُشْبِهُني".

  هذه المرحلة تعكس تطلع الشاعر إلى شيءٍ أعلى، سواء كان ذلك النور رمزًا للهداية أو للتحرر الروحي.


 4. الارتقاء نحو الجنان (التحرر والطهر):


 تتوج الرحلة بالانزياح النهائي نحو العلو الروحي، حيث يرفض الشاعر كلَّ ما هو دنيوي، نجد الشاعر يتطلع إلى جنان ربه، حيث يسعى للوصول إلى حالةٍ من الطهر والتحرر من الذنوب والقيود: "إلى جِنانِ رَبِّي لأرتْوي".

 فهو يعبر عن رغبته في التحرر من قيود الدنيا والوصول إلى حالةٍ من العلو الروحي: "لا شَيْءَ يَمْنَعُني مِنْ الصُّعودِ إلى العُلى".


5. الوصول إلى الطهر (التحقق الروحي):

   - في النهاية، يعبر الشاعر عن رغبته في الوصول إلى حالةٍ من الطهر والصفاء، حيث يرفض كل ما هو دنيوي ويسعى نحو شيءٍ أعلى: "بلْ صَوْبَ ماءِ الطُّهْرِ أمْضي / وَلا غَيْرَ الطُّهْر أرْتَضي".

   هذه المرحلة تعكس تحقق الشاعر بضرورة الارتقاء الروحي والتضحية بكل شيءٍ في سبيل الوصول إلى حالةٍ من الطهر والتحرر.


6. التضحية والاستسلام (التحرر النهائي):

تنتهي القصيدة باستعداد الشاعر للتضحية بكل شيءٍ في سبيل الوصول إلى "الرمق الأخير" في حالةٍ من الطهر، حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن ذاته الدنيوية: "لا أبْغي شَيْئًا مِنَ الدُّنى، وبها لا أكْتَفِي".

  فهو بلا شك يعبر عن رغبته في الوصول إلى الرمق الأخير ، قد يكون موتًا رمزيًا (الفناء الصوفي) أو تحققًا بالخلاص، بحالةٍ من الطهر والصفاء: "يَحْمِلُني إلى الرَّمَق الأخير ثُمَّ يَلُفُّني إذْ يوْمًا سَأنْقَضي"،  

في هذه المرحلة الحاسمة من القصيدة، يصل الشاعر إلى ذروة رحلته الوجودية حيث يتجلى التحول الجذري من حالة الصراع إلى حالة التسليم. هذه المرحلة لا تمثل نهاية فحسب، بل هي لحظة التحقق الأسمى التي تتويجاً لكل المراحل السابقة.

ليعلن الشاعر تخليه النهائي عن كل ما هو دنيوي بعبارات حاسمة: "لا أبغي شيئاً من الدنى، وبها لا أكتفي". هذا التجرد يتجاوز مفهوم الزهد التقليدي ليصبح انسلاخاً وجودياً، رفضا لكل أشكال التعلق المادي، وتحرراً من سجن الهوية الأرضية..

هكذا يصبح الاستسلام النهائي ليس انهزاماً، بل انتصاراً للروح على المادة، وللمطلق على النسبي، حيث تتحول التضحية من فعل مرغم إلى اختيار حر، ومن خسارة إلى مكسب روحي أعلى. 

مرحلة تضع القارئ أمام مفارقة عميقة: فذروة الوجود تكمن في الاستعداد لعدم الوجود الدنيوي، وكمال الذات يتحقق بالتخلي عن الذات.


الخلاصة:

بنية الارتقاء الدلالي في النص تعكس رحلة الشاعر من حالةٍ سفلية مليئة بالعذاب والصراع إلى حالةٍ عليا من الطهر والتحرر الروحي. هذه الرحلة تتضمن مراحل متعددة، بدءًا من الصراع مع الذات، مرورًا بالبحث عن النور، ووصولًا إلى التحرر والوصول إلى حالةٍ من الطهر والصفاء. هذه البنية تعكس تطلع الشاعر إلى شيءٍ أعلى وأسمى، وهو ما يعطي القصيدة عمقًا روحيًا وإنسانيًا.واللافت أن النهاية لا تُقدِّم خلاصًا مضمونًا، بل استعدادًا للتضحية، مما يضفي طابعًا تراجيديًا على الرحلة.  

بهذا، يتجاوز حسن الكامح في نصه التفسير الصوفي التقليدي للفناء، ليقدم رؤيةً وجوديةً معاصرةً تتعامل مع العذاب كمسارٍ ضروري للتحرر.


صاعِدًا لا أرْتَوي

الحَسَن الكَامَح شاعر من المغرب


 صاعِدًا مِنْ جَحيم الذَّاتِ

إلى جِنانِ الرُّقِيِّ وَحيدًا

والسَّعيرُ يَلُفُّني ولا أرْتَوي

لا ماءَ فِي المَدى يَرْويني

لا مَوْجَ فِي البَحْر يُطهِّرُني 

صاعِدًا أحْمِلُ صَخْرَةَ الأنا 

عَلى كَتِفِي وبالنَّار أكْتوي 

أبْحَثُ بيْن الغَيْماتِ المُشْرقاتِ 

عنْ وجْهٍ يُشْبِهُني

عَساهُ يَفُكُّ قيْدًا عُمْرًا يُلازِمُني

أبْحَثُ بَيْنَ النَّجْماتِ البَعيداتِ

عَنْ ضَوْء يُنيرُني

عَساهُ يُزيلُ الظُّلُماتِ عَنِّي

أنا المُوَزَّعُ بيْنَ أشعَّةِ الشَّمْس 

أقْتَبِسُ المُسْتحيلَ 

مِنْها وَلا بِشُعاع واحِدٍ أحْتَوي 

أنا النَّافِرُ مِنِّي 

إلى بلادِ الغيْبِ لا علمَ لي بها

بين جَحيمِ الْمَجْهولِ

كيْ أعانِقَ ظِلا

 ضاعَ ذاتَ لَيالٍ مِنِّي

فاسْتوى فِي المَدى بَدْرًا وفِيَّ لمْ يسْتو

أنا الماكِثُ 

بَيْنَ الماءِ والنَّار

عَلى صِراط الأنا

أمْشي خَمْسين عامًا بَيْني وبَيْني 

ولا أسْتَقِرُّ إلا فِيما يُعَلِّقُني عالِيًّا 

            ولَوْ أنهُ بي يَوْمًا قدْ يَهْوي                                                                           

أنا الزَّاهدُ فِي زاويا العُلى

تَسْتَهْويني آياتُ اللَّهِ 

فِي الكِتابِ وفِي المَدى 

لكنْ فِيما مَلَكَتْ نَفْسي لا أسْتَهْوي 

صاعِدًا ...

منْ مدنِ العَطَش

إلى جنانِ رَبِّي أسوقُ أمامي غَنَمَ الْحُروفِ

وعَلى عَرْشِها بَيْنَ الغُيوم أصْطَفِي

لا شَيْءَ يَمْنَعُني مِنْ الصُّعودِ إلى العُلى

لا شَيْءَ يَجْلُبُني لِهَذا التَّحْتِ 

منْ زَرابِي مَبْثوثَةٍ عَلى جَنَباتِ الرَّوابي

والعَيْنُ إلى العُلى، تَقْتَفِي

صاعِدًا...

لا أسْتَبِقُ الزَّمانَ زَماني

وإنْ خَرَّ مِنِّي زَماني

لا أنا مُتَخَلِّفٌ للوَراءِ خَلْفَ ظِلِّي 

وَلا ظِلِّي يَسْبِقُني فِي مَكاني

نَمْشي سَوِيًّا فِي طَريق العُلى

ومِنْ حينٍ لِحينٍ الشَّمْسُ عَنَّا تَخْتَفِي

صاعِدًا وَحيدًا شَريدًا مُجاهِدًا فِي ذاتي

منْ جَحيمِ الْحُروبِ والتَّعارُض

إلى جِنانِ رَبِّي لأرتْوي

فَفُكِّي قَيْدي أمِّي وَدَعيني 

أسيرُ فِي اتِّجاهِ رَبِّي

عَساني أنْسى ذَنْبي 

وإنْ كُنْتُ فِي دُنْيايَ بنِعْمَتهِ أنْتَشي

أنْتَشي وأنْتَشي حَدَّ إقْصاءِ ذاتي

مِنْ خَيْراتٍ عَلَى طُول طَريقِ 

تَبْدو لي لَكِنِّي بِها لا أشي

لا خَيْرَ فِيَّ أنا الصَّاعِدُ

إنْ لمْ أرْكَبْ سَفِينَةَ الَّلهِ 

وإلى جِنانِهِ العُلْيا أرْتَقي

لا خَيْرَ فِيَّ أنا الصَّاعِدُ

إنْ لمْ أعانِقْ سَيْفَ المُسْتحيلِ

ومَغْفِرَةَ رَبِّي أتَّقي

أنا العاصي فِي الدُّنْيا

المائلُ المُمِلُّ العاري المُعَطَّلُ 

لا أبْغي شَيْئًا مِنَ الدُّنى، وبها لا أكْتَفِي

بلْ صَوْبَ ماءِ الطُّهْرِ أمْضي 

وَلا غَيْرَ الطُّهْر أرْتَضي

لا مُبالِيًّا بالعُمْر يَنْقَضي 

لا بِالتَّجاعيدِ تَرْكَبُ وَجْهي

والشِّيبُ يَحْتوي شِعْري

أنا الماضي المُنْقَضي بالْحُلْم أرْتَضي

أنا العاصي المُذِلُّ

المُنْهارُ بَيْنَ مَلَذَّاتِ الْحَرْف والكَلِماتِ

المُوَزَّعُ بَيْنَ الذَّاتِ والقَصيدات

المُنْغَمِسُ فِي غَياهِبِ الاهْتِزازاتِ

لا أرْضى لي بِغَيْر العُلُوِّ فِي الْخُلُواتِ

ولا أرْضَ لي تُسْقى بِحِبْر العُمْر غيْرَ بَياضٍ

يَحْمِلُني إلى الرَّمَق الأخير ثُمَّ يَلُفُّني إذْ يوْمًا سَأنْقَضي

الشاعر الحسن الكامح

المغرب

توثيق: وفاء بدارنة 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق