السبت، 31 مايو 2025


 الراوية تكتب نفسها 

النادي الملكي للأدب والسلام 

 الراوية تكتب نفسها 

بقلم الشاعرة المتألقة: نور شاكر 

 الراوية تكتب نفسها 

قصة قصيرة بقلم: الكاتبة نور شاكر

لم يكن في الغرفة سوى ضوءٍ خافتٍ ينسكب من نافذةٍ نصفها مغلقة، يلامس أطراف الستائر بلطفٍ كأنّه يربّت على كتف الغياب. الساعة على الجدار لم تكن تدقّ كما تفعل الساعات، بل كانت تنبض كقلبٍ هرمٍ لا يريد أن يتوقّف، وتهمس في كل دقيقة:

"ما زال هناك وقت... لتتذكري."

جلستْ شهرزاد على طرف الكرسي الخشبي، ذلك الكرسي الذي يشبهها في صمته، في انحناء ظهره، في خشبه المتهالك الذي شهد أحاديث الليل الطويلة. هذه المرة لم تكن الراوية. لم تمسك بالخيوط لتحيك منها حكاية تسلّي بها شهريار، ولم تراقب العيون الفضولية خلف الستائر تنتظر نهاياتها المعلّقة.

هذه المرة، كانت تنصت.

لا لصوت خارجي، ولا لسؤالٍ ينتظر جوابًا، بل لصوتٍ داخلي... عميق، قديم، يخرج من زاوية منسية في القلب، من طفولة لم تروِها بعد، من ماضٍ أغمضت عينيها عنه طويلاً.

كان الصوت، صوت الفتاة التي كانتها يومًا...

الفتاة التي كانت تكتب اسمها مرارًا على دفاتر المدرسة لا لشيء إلا لتقنع نفسها أنها ستكون شيئًا يومًا ما.

التي كانت تؤمن أن القصص ليست مجرد كلمات، بل مفاتيح لمصائر مغلقة.

التي كانت تمشي في الأزقّة بخيالٍ يتجاوز الحيطان، وتحب أن ترسم على الجدران أبوابًا تؤدي إلى عوالم لا يسكنها الألم.

مرّت ببالها صور متقطّعة، كأحلامٍ لم تكتمل:

أمٌ تغزل من الحنان عباءةً من دفء، كانت إذا احتضنتها شعرت أن العالم كله يتّسع لها.

وطفلة تسير حافية على رصيفٍ من الوجع، لا تبكي، بل تجمع الأحجار لتبني بها قلاعًا وهمية.

ورجل… رحل. لم يقل وداعًا، لم يترك رسالة، لكنه ترك رائحة حضوره عالقة في فناجين القهوة، وفي دفاتر الانتظار، وفي الليل حين يصير الصمت أكثر امتلاءً من الكلام.

كل ذلك كان حبرًا في قلبها.

كل نبضة، كلمةٌ لم تُكتب.

كل تنهيدة، فصلٌ آخر من حكاية لم يُصرّح بها.

كبرت شهرزاد…

لا لأن الأيام مرّت، بل لأن الحياة انحنت لها ذات مرة، فانكسرت ولم تسمح لأحد أن يرى الكسر.

كانت تكتب لا لتُبهر، بل لتتوازن، لتخبئ رعشة قلبٍ بين السطور، لتخيط من الحروف أثواب صبرٍ طويلة، تسحب ذيولها خلفها كلما مشت في الممرات التي تعرفها وحدها.

وكلما سألها أحد عن السرّ خلف هذا العمق، تبتسم، تلك الابتسامة التي لا تقول شيئًا، ثم تهمس:

"ربما وُلدتُ في حضن الليل، فشبعتُ من أسراره."

لكن الليلة…

الليلة لم تكن ككل الليالي.

الليلة لم تكتب لتخلّص أحدًا من موتٍ مؤجّل، ولا لتزرع الأمل في عين شهريار.

الليلة كتبت نفسها، بكل ما فيها من صمت ودهشة ووجع، كأنها تنفض الغبار عن امرأةٍ طالما خبّأتها بين السطور.

اعترفت أخيرًا أنها كانت البطلة طوال الوقت، لا الراوية فقط.

تكتب عن صمتٍ علّمها كيف تصرخ على الورق دون أن يسمعها أحد.

عن حبّ غادر دون أن يودّع، وتركها تتعلّم وحدها كيف ترمّم قلبًا مكسورًا بحروفٍ مرتجفة.

عن الوحدة، كيف تنبت في الزوايا، وتحوّل الأرواح إلى نصوصٍ ثقيلة، لا تُقرأ بسهولة.

وعن الأمل… ذاك الذي تأخّر، لكنه لم يخنها قط. كان دائمًا هناك، يلوّح لها من بعيد، يبتسم ويقول: "اصبري… أنا قادم."

وقبل أن تغلق الدفتر، كتبت:

 "لي حياةٌ لم أعشها بعد،

لكنني أراها تنتظرني،

تلوّح لي بكفٍ مبلّلٍ بالحنين،

وتعدني: أن القادم لن يشبه كل

 الذي مضى."وأغلقت الدفتر.

لا لأنه الفصل الأخير، بل لأنه 

الفصل الأول في حكايتها الحقيقية.

ثم ابتسمت…

ليس لأن الحكاية انتهت،

بل لأنها بدأت حكايتها الخاصة،

ولأنها حين التفتّت أخيرًا إلى نفسها… وجدتها.

بقلم : نور شاكر 

توثيق: وفاء بدارنة 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق