الأحد، 13 أبريل 2025


***  خانتني الحياة. ***

النادي الملكي للأدب والسلام 

*** خانتني الحياة. ***

بقلم الشاعر المتألق: رفعت رضا 

***  خانتني الحياة. ***

قد جفّ الحبر،

وعجز الكلام عن الوصف،

وما للعين غير الدمع،

يسيل مودِّعًا الراحلين،

ومستقبِلًا الزوّار:

من زار ليسعد بالفراق،

ومن زار لتخفيف الحال.

وما الحال وقد كان

محتومًا منذ زمنٍ فات.


فقد عاد الفؤاد

لظلام الوحدة،

ونار الاشتياق،

وقد ودّع الأحباب،

وكان الحُكم ممن كانوا أقرباء،

فقد سال الدمع مخلوطًا بالدماء.


وها أنا أقف مسلوب الإرادة،

لا أقوى على الاعتراض،

فاعتراضٌ دون وجود المستمعين،

فقد اختاروا، ولم يُحسنوا الاختيار،

أهملوا قلبي وعشقي،

وها هو جوابهم على السؤال:

"ماضيك، هل جاءه أمره بالاندثار؟

أم وقع بين طيّات الزمان؟"


فلِمَ أنتم؟ ولِمَ أنا؟

أريد الهروب، أريد الفرار،

لكن إلى أين؟

لا أعلم الاتجاه،

فقد طُمِسَت كل الخرائط،

ولم يبقَ سوى سحر العرفات

يُشفي جُرحًا قد فشل فيه الأطباء.


قد بكيتُ دمًا،

ولم يلحظ أحدٌ كلّ هذا الألم،

فقد بقيتُ مع الألم وحيدًا،

لا ملجأ، لا مأوى، لا علاج.


قد عاد الشيطان،

ذاك الذي لا يخشى أحدًا،

ويذهب للهلاك،

فقد كان ذاك صاحبه،

وصاحبي الآن.


فأين أنت؟

ولماذا تركتني وحيدًا بين الناس؟

فأين الناس؟ فتلك أوغاد،

يكرهون الكل ويُظهرون الإحسان.


فهل هذه جنّة الإله؟

أم حلم عبدٍ قد طغى بالحياة؟

هل حُكِم عليه بذلك؟

أم أنها إرادة الله؟


أعيش كالأموات،

ولا أموت كالمخلّدين،

دون هدفٍ أو اتجاه.


فهل يعرف أحدٌ حقوق الأحياء؟

فقد ظُلمت، ولم أجد محكمة،

أشكو لها من الإعراب،

فقد كنتُ كالمضاف،

ليس له محلّ من الإعراب،

وكالنعت، يمكن حذفه

من الجملة دون أي مبرّرات.


فتلك قوانين النحو والإعراب،

يَظلِمون ويَرفعون من أرادوا

دون أيّ مقدمات.

فقد نُصِف المبتدأ لأنه بادئ الكلام،

وحوفر مكانٌ للمفعول لأنه مسك الختام.


وها أنا الآن أُعلّم الأطفال،

وأجهل ماهيّة الإنسان.

فما بقي من العمر سوى صدى،

يُردده فراغ القلب في خلوة المساء،

أين الرفاق؟

أين الضحكات التي كانت تسبق الخطى؟

أين الدروس التي كنا نحفظها

عن معنى الإنسان،

وعن كيف تهرب الروح

حين تُظلم الصفحات؟


فيا من كان للحب قنديلًا،

لماذا انطفأت؟

ألم تعلم أن العتمة

لا تُناسب مَن تذوق النور؟


أكتب الآن فوق ورقٍ كأنّه صدري،

ينزف من كل سطرٍ ألقيه،

حبرٌ مخلوطٌ بندمٍ قديم،

وخيال طفلٍ ظنّ أن الحياة امتحان

وأن النجاح يأتي مع الفهم،

لا مع الألم.


يا أبي، يا من علّمتني أن أُعرب الجُمل،

ونسيت أن تعلمني

كيف أُعرب نفسي حين أضيع،

هل أكون مرفوعًا بالأمل؟

أم منصوبًا بالفقد؟

أم مجرورًا بما مضى؟


ويا قلبي، يا من كنتَ تُهدهد الضعف،

وتُغنّي للأمل أنشودة الفجر،

كيف تلوّنت نبضاتك بالسواد؟

أكنتَ تحبّ، أم كنتَ تتوهّم الحب؟

فالعاشق لا يُحسن الفِرار،

ولا يُجيد الصمت حين يشتدّ الوجع.


أنا لم أعد أميز ما إذا كانت الأيام تمضي،

أم أنا من يُطوى بين طيّاتها،

كحرفٍ في هوامش النسيان،

لا يُقرأ، ولا يُكتَب،

لكنه هناك، يُراقب السطر الأخير

ولا يدري إن كان سينجو من المحو.


يا زمني،

كم من خيبةٍ خبّأتها لي؟

وكم من لُعبةٍ أعددتها في الظلام؟

فأنا، منذ عهدٍ بعيد،

لم أكن إلا طفلًا يركض خلف الأمل

في طرقٍ لا تؤدّي إلا للخذلان.


وأين النجوم؟

ألم تعد تنير دربي كما وعدت؟

أم أن السماء اختارت أن تُغمض عينيها

كما يفعل الجميع حين يروني أنزف؟

فالضوء لا يصل من النوافذ المقفلة،

ولا الدعاء يعلو من صدرٍ متعب.


يا أمّي، لو كنتِ هنا،

لخبّأتِ رأسي بين يديكِ،

وقرأتِ عليّ شيئًا من طُمأنينة الدعاء،

وقلتِ: “سيمرّ يا بني، سيمرّ،”

لكن لا أحد هنا يُجيد الطمأنينة،

ولا أحد يعرف كيف يُربّت على كتفٍ انهار.


أنا ظلّي الآن،

يسير قبلي، يُسبقني في الغياب،

يسخر منّي كلّما حاولت الوقوف،

ويقول: "عود إلى حيث بدأت،

فما من طريقٍ كُتب لك،

وما من وطنٍ يفهمك".


وأسأل نفسي:

هل أنا الشعر؟ أم الجرح؟

أم مجرّد صدى شاعرٍ

ضلّ الطريق وهو يبحث عن المعنى

في كتابٍ مبلّلٍ بالدموع؟


يا كلّ من رحلوا،

علّمني كيف أرحل عنّي،

كيف أنزع عن روحي ما تبقّى من أسئلة،

وأدفنها تحت وسادتي،

علّها تكفّ عن إيقاظي كلّ ليلة

بسؤالٍ جديد لا إجابة له.


فها أنا أكتبني،

كما تكتب الريحُ رسائلها في الرمل،

تعلم أنّ الموج سيمحوها،

لكنها تكتب، لأنّ الصمت موتٌ مؤجّل،

ولأنّ في الكتابة بعض النجاة،

ولو كانت مؤقّتة كالعمر.


أُكمل لأني أخاف النهاية،

وأخاف أكثر أن أتوقف دون أن أُقال،

أن أمضي كما مرّ كثيرون،

دون أن يلاحظ أحدٌ ارتباك الرحيل،

دون أن يُمسك أحدهم آخر نبضي

ويقول: "كان هنا إنسان،

أحبّ بصدق، وخُذل بصدق، ومات بصدق."


أنا لست نبيًّا، ولا شهيدًا،

أنا سطرٌ ساكنٌ في زاوية دفتر،

لم يحفظه أحد،

ولم ينسه أحد،

فهو ليس مهمًا كفايةً ليُذكر،

ولا تافهًا كفايةً ليُهمل،

هو فقط... هناك.


فيا ليتني كنتُ قصيدة،

تحملني القلوب في تلاوتها،

أو كنتُ دعاءً

يُبكِي أمًّا في ركعةِ قيام،

أو كنتُ طفلةً

تضحك دون أن تدري لماذا،

فقد نسيتُ كيف أضحك،

ونسيتُ إن كان لي حقٌّ في الفرح.


يا مَن سكنتم قلبي ثمّ غادرتم،

أكنتم تعلمون أن الرحيل

لا يترك خلفه أبوابًا تُغلَق،

بل أرواحًا تُهدم؟

أن الفقد لا يُنسى،

بل يتقمّصنا كظلٍّ لا يفارق؟

أنّ كلّ وداعٍ هو موت صغير،

وكلّ ذكرى هي سكينٌ جديد؟


وأسأل السماء:

هل يُكتب لنا لقاءٌ في الدار الأخرى؟

أم نُبعث من جديد

بأسماءٍ جديدة وقلوبٍ لا تعرف الألم؟

هل هناك زمنٌ لا تُقاس فيه الخيبات؟

ولا تُوزن فيه المشاعر بميزان المصلحة؟


أُكمل،

لأن الكلمات إن توقّفت،

مات فيّ كلّ شيء،

وأنا أرفض أن أموت بصمت،

أن يُقال عنّي:

"كان هنا، ومضى كأنّه لم يكن."


فليكن هذا الحبر قبري،

وهذا الورق كفني،

ولْتكن دموعي شاهدةً عليّ،

أنّي كنتُ يومًا،

روحًا تنبض بالحياة،

وتكسرها الحياة.

فليكن هذا ختامي،

لا لأنّ الحكاية انتهت،

بل لأنّ الحروف تعبت من المسير،

ولأنّ القلب، رغم كلّ النزف،

ما زال ينبض... لا حبًّا،

بل لأنّه لم يتعلّم بعد كيف يموت.

سأطوي هذه الورقة

كما طويتُ أعوامي،

وأُسدل عليها ستار الوجع،

علّها ترقد بسلامٍ

كما لم أفعل أنا يومًا.

وإن قرأها غريبٌ يومًا،

فليقل:

“مرّ من هنا إنسان،

لم يكن شاعرًا،

لكنه كتب حين خانته

بقلم : رفعت رضا 

توثيق: وفاء بدارنة 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق