*** ((حبّ أعمى)).***
النادي الملكي للأدب والسلام
** ((حبّ أعمى)).***
بقلم الشاعر المتألق: مصطفى الحاج حسين
*** ((حبّ أعمى)).***
قصة: مصطفى الحاج حسين.
منذ اليوم الأول، لتعينها مديرة
للمؤسسة، شعرت بانجذاب نحوها، بهرني جمالها،سحرتني لحظة صفحتها لذلك وقفت إلى جانبها، رغم أنني كنت طامعا في استلام الإدارة.
ما حاربت المدير السابق، إلاّ لأحلّ مكانه..ومع هذا مددت لها يد المساعدة، أنا الذي كنت أضمر لها الشر، يوم تسرّب خبر ترشيح المدير العام لها.. وبصدق أقول لو لايّ، لأخفقت إخفاقا ذريعا، لأن معظم العاملين، يرفضون العمل تحت قيادة فتاة، لم تتجاوز الخامسة والعشرين، ولأني أملك تأثيرا عظيما على كافة الموظفين استطعت أن أمنع رفع أيّ تقرير، بحق المديرة الجديدة، وبطرقي الخاصة، جعلت الجميع خاتما في إصبعها، بذلت جهدي ووقتي في خدمتها.. قمت بأعمال المؤسسة كلها، أبقيت لها عملا واحدا فقط.. تركتها خلف طاولتها، متفرغة للزهو والمباهاة، وللثرثرة على الهاتف
.. أصل إلى العمل، قبل ساعتين، ولا أغادر، إلاّ بعد انصراف الجميع، كنت أطمع في صداقتها.. بل في حبها.. ولكن عبثا.
أصنع لها الشاي والقهوة.. أمسح طاولتها.. أعتني بأصص الورد في مكتبها.. أملأ قلم حبرها.. أقوم بتصليح سيارتها.. وكلّ شيء، كلّ شيء من أجلها.
لاحظت حبها للمطالعة، فأخذت أبحث في المكتبات، عن الكتب التي تحبها، وانتبهت أنها مغرمة بحلّ الكلمات المتقاطعة، فلم أبق جريدة، أو مجلة تهتم بذلك، وهي كثيرة على كل حال، إلاّ اشتريتها.. وعلمت عشقها صوت (فيروز)، فأتيتها بأشرطتها.. وتناهى إليّ أنها تأتي دون فطور، فهرعت لأحضر ما تحب من طعام.. لاحظت شغفها بالتدخين بعد الطعام، فأخذت أشتري لها علب السجائر المهربة، مع أني لا أطيق التدخين.
حتى وصلت هذه الخدمات إلى منزلها، فكم من مرة حملت لها جرة الغاز، وصعدت بها إلى الطابق الخامس وتعرفون مدى صعوبة توفير الغاز، كنت أدفع زيادة على السعر، من أجل أن ألبي طلباتها.. وطلبات والدتها، التي كانت تدعو لي، من كل قلبها.
ومرّة، أقسم لكم على ذلك،
تستطيعون إن لم تصدقوا، أن تسألوا أهلي، اتصلت أمّها.. وطلبت تأمين ربطة خبز، وحين عجزت عن تأمينها، من السوق السوداء، هرعت إلى منزلنا، أخذت ما فيه من خبز، رغم احتجاج العائلة.
وذات يوم.. رأيتها منزعجة، من أحد الموظّفين، فحاربته مع أنه كان صاحبي، أرغمته على تقديم استقالته.
عن أيّ شيء أحدثكم، صرت لها عبدا مطيعا، وكلبا أمينا،كل هذا للتقرب
منها.. ولكن عبثا.
قررت أن أصارحها بأمر حبي، أريد أن أرتاح، من عبء هذا العشق الجنوني، نهاري في خدمتها، وليلي للتفكير فيها، تسبقني إلى أحلامي.
كم مرّة، خرجت بعد منتصف الليل من منزلي، أمشي ما يقارب الساعة، لأصل العمارة التي تقيم فيها، استرق مثل لص، النظر إلى نافذتها الغارقة في العتمة، أتخيلها نائمة كملاك، وأحسد وسادتها ولحافها، بل أحسد الظلام المطبق على غرفتها،أقترب من سيارتها أمسد جسدها الأملس ، وأقبل زجاجها البارد.
قررت مصارحتها، لكنني تساءلت، هل يعقل أنها لم تشعر بعواطفي نحوها حتى الآن!.. وكل الناس يؤكدون أن المرأة ذات حساسية فائقة، بما يتعلق بالإعجاب بها، وأنا لست مجرد معجب، بل مهووس، لكن من المؤكد أنها تنتظر الأنثى تنتظر، وعلى الرجل أن يبدأ دائما، هذا ما قاله لي صديق، أثق بآرائه في عالم النساء.
في اليوم التالي، اقتحمت عليها خلوتها، وبادرتها دون مقدمات:
ـ آنسة (رحاب).. ماذا لو طلبت يدك؟.
انفجرت بضحكة زلزلت أعماقي.
قلت منكسرا:
ـ لماذا تضحكين؟!.. أنا لا أمزح.
علت ضحكتها، أشارت بإصبعها نحوي، والكرسي تحتها يضحك أيضا:
ـ أنا.. أتزوج منك يا(صالح)!!!.
حاولت ابتلاع الإهانة.. لكنني لم أستطع:
ـ ماذا ينقصني.. لتسخري مني؟؟؟!!!.
مسحت الضحكة..اصطنعت هيئة جادة، قالت بعد صمت:
ـ يا أخ (صالح).. لا تكلمني في هذا الموضوع مرّة أخرى.
قلت كمن يلقي بآخر سهم في جعبته:
ـ لكن لماذا؟!.. أنا أحبك يا(رحاب)، ألم تلاحظي ذلك. ثم تابعت أشكو:
ـ هجرني النوم بسببك.. فكري بالأمر.. أرجوك.
لكن ضعفي جعلها تصرخ:
ـ (صالح).. لا أريد سماع مثل هذا الكلام.
ساعتها.. تمنيت أن أصفعها، منتقما لانكساري وذلي.. ولكني خرجت أحمل هزيمتي بصمت.
منذ ذلك الوقت وأنا أتعذب، أتساءل عن سبب رفضها!!!..انظروا إليّ..هل في شكلي ما يضحك؟!.. هل لأنها مديرة؟! أم لأني صادق، لا أعرف اللف والدوران؟!.
ولكي أخرج من قلقي، وأمنح نفسي فرصة للتوازن، والتفكير، طلبت إجازة ، غبت عنها، فكرت بالزواج من غيرها، من أيّ إنسانة، كنت عاجزا عن فعل أيّ شيء، لم أعد أطيق رؤيتها، أخذت تراودني فكرة أن انتقال، بل فكرت في محاربتها، فهي حتى الآن، لا تعرف شيئا عن المؤسسة ، وأستطيع خلق مشاكل لا تحصى أمامها، عندها ستعرف من أنا، وستدرك أنني المدير الحقيقي.
قطعت أختي حبل تفكيري، طالبة مني أن أرد على الهاتف،رفعت السماعة ففاجأني صوت والدتها:
ـ مرحبا أستاذ (صالح)..
ـ أهلاَ..
ـ (صالح).. لماذا لم نعد نراك؟!.
ـ في الواقع.. أنا في إجازة.
ـ إجازة عن المؤسسة، وليس عنّا.
ـ حاضر.. سوف أزوركم.
ـ أريدك أن تأتي الآن..
صمت برهة أفكر.. ثم قلت:
ـ هل من ضرورة لمجيئي؟!.
ـ نعم.. أنا في انتظارك.
وضعت السماعة شاردا ، ماذا تريد
؟! .. وهل (رحاب) موجودة؟.. لم ينتهي دوامها بعد، يبدو أنها لم تخبر أمها بعد، بما جرى بيننا.
حين وصلت، استقبلتني الأم بحرارة زائدة، دعتني إلى غرفة الضيوف، قلت وأنا أسير أمامها:
ـ خير.. هل من خدمة؟.
نظرت إليّ بحنان أربكني، وقالت:
ـ أخبرتني (رحاب).
قلت بصوت محزون:
ـ تبقى رحاب مثل أختي.
ـ لن تزعل حين تعرف السبب.
هتفت بلهفة:
ـ أرجوك.
مرت سحابة حزن واضحة، قرأتها في عيون الأم، وبدا أنها تقاوم اندفاع الدمع:
ـ (رحاب) يا (صالح).. مشّوّه.. منذ صغرها.
رددت خلفها بذهول:
ـ مشوّهة؟؟!!.. كيف؟؟!!.. لم ألاحظ أيّ شيء.
ـ التشوّه في بطنها.. انفجر عليها بابور الكاز، وهي صغيرة.. وحتى لو تزوجتك لن تستطيع أن تنجب لك أطفالا.
طارت طبقات الغبار الحاقدة، التي حطت على قلبي، عاد قلبي يخفق بصفاء، التأم جرح كرامتي المفتوح، فهتفت دون شعور:
ـ من قال لك أنني أريد أطفالاً؟!.. أنا لا أريد سوى (رحاب).
قالت الأم، بعد أن جففت دموعها، وبدا على وجهها الارتياح:
ـ قريبا ستذهب (رحاب)، إلى (أمريكا)، لإجراء عملية تجميل.
لا أدري كيف بدر مني هذا السؤال، الذي لم اكن أقصده:
ـ وهل التشوه كبير، إلى هذه الدرجة؟.
عاد الحزن يغلف وجهها.. أطرقت صامتا، أفكر بآلام (رحاب) وتعاستها
.. لماذا لم تخبرني؟.. انتابني حزن شديد، وعطف كبير، وحب لا نهائي.
نهضت الأم قائلة:
ـ سأعد لك فنجانا من القهوة.
ـ شكرا.. أريد أن أذهب.
رمقتني بنظرة ذات دلالة، وسألتني:
ـ ألا تريد أن ترى (رحاب)؟!.. دقائق وتصل.
خجلت من نفسي، خشيت أن تفسر موقفي هروبا.
جلست أفكر.. كيف استطاعت (رحاب) أن تتحمل كل هذه الآلام بمفردها؟!.. كم كنت غبيا، حين فكرت بالانتقام منها، على كل حال ليست هي المرة الأولى.. فأنا أعرف أنني حقود، منذ أن اختلفت مع المدير السابق.
رنْ الجرس.. قفز قلبي من مكانه.. لقد وصلت.. سمعت همسا بينهما.. دخلت.. نهضت.. ومتعمدا خاطبتها، دون رسميات:
ـ أهلاَ (رحاب).
قطعت عليّ الطريق:
ـ أهلا أستاذ (صالح).. تفضل.
حاولت أن أخفي ارتباكي:
ـ كيف أحوال المؤسسة؟.
أجابت باقتضاب:
ـ بخير.
طعنتني مرتين.. كنت أتوقع أن تقول المؤسسة دونك لا تساوي شيئا، إذاَ غيابي لا معنى له عندها.. أم أنها تداري عجزها، عن إدارة المؤسسة دوني؟!.
دخلت الأم، لتقطع عليّ ضياعي، بين الاحتمالات والتكهنات، تناولت القهوة دون وعي مني، وقررت أن أبدأ بالمصارحة:
ـ (رحاب) أمك أعلمتني.
نظرت مستفسرة. أضفت :
ـ عن التّشوْه.
امتقع وجهها، نظرت إلى أمها بحدة، ثم انخرطت في البكاء، قلت وأنا أظن أنها فرصتي، لإبراز إخلاصي وحبي:
ـ (رحاب).. أنا مصمم اليوم ، أكثر على طلب يدك.
وما إن أنهيت كلامي، حتى نهضت بعصبية، ترتجف أوصالها، وتحرك يديها بطريقة عشوائية.. وتصيح:
ـ لكنني لا أريدك.. ألا تفهم؟!.
ومضت تتعثر بخطواتها ودموعها، تبعتها أمها دون اكتراث لوجودي، فعلا صوتها من الداخل:
ـ لا أريده.. لا أطيقه.. هل فهمت.. أم لا.؟!.
خرجت مثل سهم طائش.. دون وداع شعرت أني جرح يمشي، وكان صوتها يطاردني كاللعنة، لا أطيقه.. لا أطيقه، لماذا تكرهني؟؟؟!!! أنا الذي رضيت بتشوهها..بعقمها..لماذا لا يعاقب القانون الأحبة الجاحدين؟!.
مشيت ابكي.. غير عابئ بمن حولي، في حلقي تتنامى غصة بحجم دموع الدنيا.. لماذا ذهبت إلى بيتهم؟.. لماذا لا أتزوج امرأة غيرها؟.. لماذا لم أقتلها تلك اللحظة؟.. لماذا؟؟؟!!!.. لو أني قدمت ما قدمت لوحوش البراري، لحنّت ولانت، وبادلتني الوفاء بالوفاء.. رضيت بها وأنا أعرف تماما أن أمي وأخواتي اللواتي لا يعجبهنّ العجب لن يسكتن، سيعتبرن ذلك مؤامرة من الأم وابنتها.. وأنا ضحيّتها، لن يصدقن أني أرمي بنفسي تحت أقدامها، وهي المشوهة العقيم، ترفضني.
عدت في آخر الليل، مخمورا إلى البيت وتسللت إلى غرفتي ، لأخفي انكساري، لكن أختي نادتني قائلة:
ـ (صالح).. مطلوب على الهاتف.
قلت بصوت مكلوم:
ـ نعم..؟!.
وجاءني صوت الأم.. فصرخت:
ـ ألم تنته اللعبة بعد؟.
نادتني بتوسل:
ـ (صالح).. أرجوك اسمعني.
ـ بل أنا الذي أرجوك.. كفى.
ـ (صالح).. (رحاب) تحبك، تحبك كثيرا.. لكنها معقدة.. وخائفة.
قلت وأنا أغالب ضعف قلبي، أمام هذه الكلمات:
ـ شكرا لك و(لرحاب)، على هذه العواطف النبيلة.
قالت متوسلة:
ـ (صالح) لا تقل مثل هذا الكلام (رحاب) تحبك أكثر مما تتصور، لا تنسى عقدة التشوه عندها، إنها محطمةوتهرب من المواجهة.
انتابتني موجة إشفاق من جديد ماذا لو كانت (رحاب) ترفض بسبب عقدتها، مؤكد أنها تخاف من نفوري منها، ولكن ألم تدرك أن حبي لها، أكبر من أيّ تشوه؟؟.. على كل حال يجب أن أبقى إلى جانبها.. وقررت أن أقطع إجازتي.
في اليوم التالي التقيت بها، لم ترحب بي، لزمت مكتبي، كي لا أحرجها،لكنّني في نهاية الدوام، دخلت أعرض عليها خدماتي.. فردتني ببرود..تساءلت هل هي خجلة مما حدث إلى هذا الحد؟.
مضت الأيام، وكل منا قابع في مكتبه ليس بيننا سوى عبارة صباح الخير .. فأكدت لنفسي أنها خجلة ومرتبكة، وأنها لم تغفر لنفسها خطأها بحقي، فتشجّعت وذهبت إليها.. جلست دون كلام، فتطلعت مستوضحة:
ـ خير يا أستاذ (صالح)، هل تريد شيئا؟.
شعرت برغبة في أن أزيل عنها، قناع اللامبالاة هذا، قلت:
ـ (رحاب).. أنا أعرف أنك محرجة مني.
باندهاش صاحت:
ـ آنسة (رحاب) من فضلك.
ـ (رحاب) أنا أحبك.. وأعرف أنك تحبيني، وتحاربين قلبك، ولكن لماذا؟!.
عبرت عن ضيقها، بزفرة طويلة
مصطنعة، وأجابت بتهكم:
ـ ومن قال لك أنني أحبك؟!.
ـ أمك.
أشعلت سيجارة على غير عادتها.. فهي لا تدخن إلاّ بعد الطعام.. ورأيت يدها ترتجف.. حاولت أن تتكلم بهدوء:
ـ أستاذ (صالح).. سأتحدث معك بصراحة.. أنا لا أرفضك للأسباب التي أفهمتك إياها أمي، الحقيقة أمي هي المعجبة بك.. أما أنا فلا أحمل لك غير مشاعر الأخوة الزمالة أنت تحبني.. ولكنني لا أبادلك المشاعر.. أنصحك بالبحث عن غيري
.. ألف واحدة تتمناك.
ـ لكنني لا أتمنى غيرك، يا (رحاب).
صاحت:
ـ ولكن ما ذنبي أنا، هل أجبرتك على حبي؟!.
نهضت، والدم يطفر في عروقي:
ـ آسف.. آسف.. يا آنسة (رحاب)، لن أحدثك في هذا الموضوع مرة ثانية.
لكن أمّها لم تتركني بحالي، كل يوم تتصل، وتؤكد أن (رحاب) تحبني
وأنها بحاجة إلى وقت لتتخلص من عقدتها، لكني لم أستطع محو الإهانة عن نفسي، قررت أن أضع (رحاب) أمام الأمر الواقع.
دعوتها إلى المستودع، بحجة الاطلاع على قطع التبديل الجديدة،
والمستودع كبير وبعيد عن الأنظار، فتحته ودخلنا، تحيّنت الفرصة وأقفلت الباب دون أن تنتبه، عبرنا الممر الطويل المؤدي إلى الركن الداخلي، أشعلت الضوء، ووقفت إلى جانبها، متظاهرا بفحص بعض القطع، وحين وجدتها غارقة بالنظر والتقصي،انقضضت عليها فأخذت تصرخ، وقد تملّكها الذهول:
ـ ابتعد.. ابتعد عني يا مجنون.
كنت عازما، وكلماتها ترن في أذني (لا أطيقه.. لا أطيقه)، فازددت اندفاعا، وأنين الآلات المحموم، يغتصب صراخه المجنون.
ـ أحبكِ... أحبكِ.
كانت تقاوم.. بكل قواها تقاوم.. بكل زعيقها.. بكل توسلاتها.. ودموعها
.. بآهاتها.. وخلجاتها.. واستسلامها.
قلت لها يا حضرة القاضي، إني ما أزال راغبا فيها.. لكنها رفضتني، وطردتني وتقدمت بالشكوى.. وها أنا أمامكم.. أعرض عليها الزواج.. وهي تصمم على سجني، أو إدخالي مشفى المجانين!.
أنا لست مجرما يا سادة.. لست مجنونا.. أنا عاشق.. عاشق.. وأرجو أن تأخذوا هذا بعين الاعتبار.
حلب
توثيق: وفاء بدارنة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق