الجمعة، 1 سبتمبر 2023


*** كهف النسور. ***

النادي الملكي للأدب والسلام 

*** كهف النسور. ***

بقلم الشاعر المتألق: محمد بن رحال

*** كهف النسور. ***

في مكان  قريب من قريتنا يسمى كهف النسور ، ابتسامة خفيفة مرسومة على شفتي و أنا أسأل زعيم النسور :

أخبرني ،لماذا لا أستطيع التحليق مثلكم أنا أيضا ؟

لن تستطيع ذلك ،لأنك لست مثلنا ، أنظر إلى كلينا و ستدرك السبب... لكن في يوم من الأيام سأحملك فوق ظهري و أحلق بك عاليا لتكتشف جمال السماء و الأرض معا...

و أنا أنظر إلى النسر بإعجاب كبير سألته : 

ما الذي يمكنني فعله لأتمكن من الطيران و التحليق؟

أجابني ضاحكا و هو يرفرف بجناحيه محدثا  ريحا قوية دحرجتني إلى الخلف : أن تقوى على مقاومة زوبعة أجنحتي... ثم طار بعيدا و هو يتابع عد بعد أن تتمكن من ذلك.

خلال الأيام التي تلت شرعت في تداريب مكثفة لتقوية جسدي كي أصمد أمام أجنحة النسر تحت أنظار أبي الذي يتابع تداريبي مشجعا بينما النسر يراقب الأمر من أعلى شجرة سامقة...

 بعد أيام من التدريب ذهبت إلى النسر قائلا :

و الٱن هل يمكنك التحليق بي عاليا لأرى جمال السماء؟

حرك النسر جناحيه بقوة رماني ريحها بعيدا و كأنني طفل من ورق . حزينا عدت إلى البيت أشكو لأبي حظي السيء و ضعفي طالبا منه المساعدة والنصح...

أي بني.. لقد كنت تتدرب لتصبح قويا نعم شيء جميل ، لكن القوة وحدها لا تعني شيئا بدون الذكاء و المرونة فبدونهما تصبح القوة من أهم أسباب الضعف.... أرأيت الأشجار ؟ تُرى ماذا تفعل حين تهب الرياح بشدة ؟

نظرت إلى أبي باندهاش، دون أن أدرك ما عناه بكلامه... ابتعدت حزينا... 

في اليوم الموالي تابعت تداريبي.. و في كل مرة حين أخسر التحدي أمام النسر ، أتذكر كلام أبي و أتساءل عن كنهه...

توالت الأيام و بعد لأي كبير و ملاحظة الأشجار وقت الرياح أدركت ما كان يعنيه أبي ، فالأشجار تنحني لكنها تظل ثابتة في مكانها مهما بلغت قوة الريح.... نعم هذا هو الحل الناجع قلت في نفسي..

بعد أيام من التداريب ذهبت من جديد إلى النسر و في اعتقادي أنني سأنجح هذه المرة.... رفرف النسر بجناحيه حاولت الصمود كالأشجار لكنني لم أكن مرنا كفاية لأصمد طويلا فتدحرجت ككومة قش...

عدت إلى البيت يائسا و قد قررت نسيان الأمر نهائيا . لا حظ أبي حزني فسألني ما الأمر ؟ أخبرته بأني لا أعرف كيف أكتسب مرونة الأشجار.. أخذ بيدي الصغيرة و توجهنا نحو الصالون حيث قارئ الأسطوانات الموسيقية ، جلست على الأريكة في حين كان أبي يتصفح مجموعة من  الأسطوانات ليختار إحداها و يضعها على القارئ " إنها  قطعة "الدانوب الأزرق " كان أبي محبا للموسيقى و له أذن موسيقية عجيبة... أشار بيده و كأنه مايسترو جوقة موسيقية، انطلقت الموسيقى هادئة متموجة ,فإذا بأبي يرقص بموازاة مع تموجاتها بشكل جميل و أنيق، و أنا الطفل الصغير أنظر إليه بإعجاب و ذهول.. شعرت بسعادة داخلية و حركة باطنية تتوق إلى الخروج.. لم أتمالك نفسي وقفت ثم شرعت في تقليد حركات أبي...

و منذ ذلك اليوم و أنا أستيقظ صباحا أشغل القارئ على نفس الأسطوانة ، أغمض عيني ثم أبدأ بحركات جسدية وفق ما يمليه علي إحساسي بالقطعة الموسيقية ،حركات تشعرني بالخفة و اللاوزن و أنا أسبح بين نوتاتها .

فكرة الطيران على ظهر النسر تلاشت فقد صرت أطير بأجنحة الموسيقى... 

مرت شهور قبل أن أتذكر من جديد قصة النسر و وعده لي.. الٱن كبرت بعض الشيء و اكتسبت الكثير من المرونة و الثبات... لم لا أحاول؟ قلت في نفسي..

ذهبت إلى النسر و وقفت أمامه في تواضع و ثقة قائلا :

صديقي النسر هل تسمح لي برؤية جمال السماء هذه المرة؟

ابتسم النسر و هو يتفحصني، لقد كان يتابع تطوري دون أن أدري.. و كالسابق شرع جناحيه ثم رفرف بهما.. أغمضت عيني و اخترقت ريحهما بجسدي الصغير في تماوج موسيقي و كأنني أرقص..

نظر إلي النسر بعد أن ضم جناحيه ثم قال : 

أيها الصغير جئت إلي قبل أشهر لأريك جمال السماء ، و ها أنت اليوم ما شاء الله أكبر و أقوى بالقدر الذي مكنك من الصمود أمام قوة أجنحتي... لقد أعجبني إصرارك على بلوغ هدفك و قد بلغته. سأحلق بك عاليا رغم اقتراب الليل لترى ما لم يره طفل غيرك...

انحنى النسر كي أتمكن من ركوب ظهره ثم أرخى جناحيه للهواء و حلق بي عاليا في عنان السماء... و أنا بالأعلى قلبي يكاد ينفجر من شدة سعادتي بكل هذا الجمال اللامتناهي الذي يحيط بي...رؤية غروب الشمس من أعلى ، أبدع و أحلى.. و النجوم التي بدت كمصابيح باهتة هنا و هناك ، منفردة و مجتمعة يزداد نورها توهجا مع انحناءة الشمس نحو خِدْرها... نجوم تتلٱلئ و كأنها عقد عظيم يزين جيد السماء ،لٱلئ أكاد ألامسها بأناملي.... 

لم أعرف كم من الوقت استغرق تحليقي و تيهي ببن السماء و الأرض فالزمان و المكان انصهرا في بعضهما و لم تعد لهما أية دلالة ، لم أعد أحس بهما ، بالنسبة لي السماء نهار في طي ليل و ليل في نهار و أنا في لامكان بين السماء و الأرض..

 خَدِرْت روحي كطفل بما كنت أرى و أحس، و  لم أصح من خَدَري إلا بيد أبي تحركني و صوته يخبرني أن وقت الذهاب إلى المدرسة قد حان....

ليت اليوم كان عطلة ، قلت في نفسي ..فركت عيني بيدي لأطرد عنهما النوم و أنا أنظر إلى جسدي الذي لا يزال صغيرا كما كان ، متسائلا كيف نكبر شهورا في حلم لا يستغرق أكثر من لحظات ؟ ترى هل زمن الحلم زمن مواز لزمن اليقظة ؟ تساؤلات أكبر من عقل طفل صغير ....

بقلم : محمد بن رحال

توثيق: وفاء بدارنة 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق