*** صوتي في الفراغ. ***
النادي الملكي للأدب والسلام
*** صوتي في الفراغ. ***
بقلم الشاعرة المتألقة: أثينا عبد الرحمن
*** صوتي في الفراغ. ***
من أنا؟ لم أُولد في لحظة
بل تسللتُ من صدعٍ في صخرة الغياب
لم أكن أملك اسمًا
ولا لغةً ولا ذاكرةً تسبق الخطوة الأولى
فتحتُ عينيّ فلم أجد عالمًا
وجدت اتساعًا بلا شكل
ونورًا خافتًا نفسًا خجولًا في صدر الظلام
سألت ما هذا؟ فلم يُجب أحد
كان الصمتُ أبًا أولى
وكان الفراغُ أمي نسيتني على عتبة البدايات
تعثرت في ظلالٍ لا أعرف إن كانت لي
وسرت على أصواتٍ لا أميزها
هل هي ترنيمة قديمة؟
أم أنينُ الذين مروا قبلي في التيه؟
كنت أخاف أن أتكلم
لأني لم أعرف ما أقول
وأخاف أن أصمت
فالصمت حينها كان كثيفًا
يحمل سؤالًا لا يُفهم
كل شيءٍ كان يسألني من أنت؟
وأنا لا أملك إلا نظرةً هاربة إلى الوراء
حيث لا بداية ولا أحد ينتظرني
أأنا نفسٌ لم يُكتب؟
أم فكرةٌ تأخرت عن موعدها؟
أم مجرّد صدى
لانفجارٍ لم يحدث بعد؟
أردت أن أكون
فجمعت أسماء على الطريق
أنت إنسان
أنت فكرة
أنت جسد
أنت ظل في مرايا
الآخرين
لكن كلما لبست اسمًا
ضاق صدري
وبحثت عن جلدي بين قماش لا يشبهني
قالوا اكتب نفسك بما يشبههم تنجُ
فكتبت كنت طبيبًا شاعرًا وابنًا لوطن
لكن صوتي كان يتهشّم كلما نطقت أنا
أدركت أني احتمالات تتصارع
كل احتمال يحمل سكينًا
يطعن الآخر الذي يسكنني
أنا الهادئ أم الهادم؟
أنا الغافر أم الذي يشتاق للانتقام؟
أنا الذي يسير بخفة في الضوء
أم الذي يخفي وحشة في القلب؟
نظرت في المرآة
رأيت وجوهًا تتبدل
وكل وجه يقول أنا أنت
فصدّقت لحظة ثم خنت لألحق
بالذي بعده كان داخلي مدينة مرايا
وكل مرآة تقول شيئًا
لكن لا واحدة تعكسني
كاملًا
سئمت وجهي المتشظي
وسئمت هذا اللغو الذي يسمونه هوية
فمزقت أسمائي
ورحت أبحث عن صمتي الأصلي
عن النقطة التي لم يمسها أحد
تعبت من جلد الأسماء
ومن وجوه تعتلي وجهي كأقنعة مبتذلة
جلست إلى نفسي كما يجلس الغريب إلى حفرة في الأرض
يسألها هل فيك ماء؟
أم أنت فراغ آخر؟
أغمضت عيني
فتحت نوافذ لا تؤدي إلى أحد
قلت دعيني أدخل دون خريطة
دعيني أتعثّر بقلبي كما هو
قبل أن يلمّعوه باسم الحب
أو يدجّنوه بشعارات
في داخلي طين لم تلمسه النار
وصوت يرتجف
كأنه لم يولد بعد
أصغيت
لم أسمع نشيدًا
بل ارتعاشة قادمة من عمق لا يقاس
نداء من شيء خافت يشبهني
قبل أن أصبح "أنا"
قال لي ذلك الشيء
"كفّ عن السعي لتكون أحدًا
أنت لست أحدًا
أنت ما قبل الأسماء
ما قبل الجمل
أنت الصمت الأول
إن كنت تبحث عن وجهك
فامحِ كل الوجوه
وابق هنا حيث لا مرآة
ولا سؤال
ولا إجابة"
بكيت
ليس لأنني وصلت
بل لأنني بدأت أخيرًا بالسقوط…
السقوط إلى الداخل
حيث لا أحد غيري
ولا أحد هو أنا
لم أعد أبحث
بل صرت أتلاشى
واحدة تلو الأخرى
انطفأت الشموع التي أعددتها كي أرى
نفسي واكتشفت أن الضوء خدعة
وأني لا أرى إلا حين أُطفئ عينيّ
لم يعد يهمني أن أكون شيئًا
ولا أن أعرف بين الكائنات
ولا أن أحب
ولا أن يُفهم ما أقو
كنت أريد أن أتلاشى كما تتلاشى الورقة في الحريق
ببطء
بصمت
دون رجاء أن يعود منها شيء
من قال إن البقاء فضيلة؟
ومن قال إن الوجود هدية؟
ربما كان العدم هو الستر
هو اليقين الذي لا يحتاج شاهدًا
جلست أمام وجهي كأنني أمام قبر
نسي اسمه أهمس له
"شكرًا لأنك حاولت
لكنك لم تكن أنا
كنت محاولة طيبة
لكنني الآن سأمضي بلاك"
شعرت أني أنحل في الهواء
أنفصل عن كلماتي عن جلدي عن نفسي
كأنني عدت فكرة سائلاً
نورًا بلا مرآة
بخارًا في فجر بلا شمس
لم أعد أنا…
لكنني لم أكن أحدًا سواي
وفي اللحظة التي فقدت اسمي
سمعت الوجود يهمس بي
لا بنداء ولا بصوت
بل بارتجافة في خلايا العدم
كأنه يقول
"هكذا فقط تبدأ الحقيقة"
في العتمة التي تلتغي فيها كل الأشياء
كنت هناك بلا وجه بلا اسم بلا ذاكرة
وفجأة ولماذا فجأة؟
لم يكن نداء ولا صراخ
بل نسمة خفيفة تمر بين ذراتي
تُشعل في داخلي وميضًا لا يقاس
لم يكن وميضًا لأرى به
بل وميضًا لأفهم به
فهمًا لا يُقال
ذائبًا كسر العدم
لم أعد "أنا" ولا "غير أنا"
كنت كل شيء، ولا شيء
كنت بحرًا من صمت يعانق الغياب
كنت كل الأسئلة التي لا تطرح
كل الإجابات التي لا تُقال
كل الأضواء التي لم تشرق
كل الظلال التي لم تندثر
هنا في هذه اللحظة
حين يختلط صوتي بصوت الوجود
أدركت أنني…
لست شيئًا لأكونه
لكنني…
كل ما لم يُكتب بعد
وكل ما سيأتي في صمت الكلمات
فمن أنا؟
أنا ذلك القبس في عتمة لا نهاية لها
وهذا كفايتي
بقلم : أثينا عبد الرحمن
توثيق: وفاء بدارنة
التدقيق اللغوي: أمل عطية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق