قراءة في مرثية ( الشريف نعيم الشاعر
أبو الحسام )
للدكتورة / عطاف الخوالدة.
النادي الملكي للأدب والسلام
قراءة في مرثية ( الشريف نعيم الشاعر
أبو الحسام )
للدكتورة / عطاف الخوالدة.
حين يبكي الشعر تمثّلات الرثاء النسوي بين الوجدان والتقديس
قراءة في مرثية ( الشريف نعيم الشاعر
أبو الحسام )
للدكتورة / عطاف الخوالدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(( القصيدة ))
أيها النسر حلقـــت في سماءغير سمائي
وما عرفــــت يا نســــــر منــي غيـــر الوفاء
***
أيا نسر قد هجــــــرت عريـنك هذا شقائي
وجعلتني كهائـــــم تائه فـــــي الصــــحراء
***
لا أدري كم العيــــش دونك في دارالفناء
فصوت تسبيحك يذكـــــر صبـحاً ومســاء
***
فاكتب حقا لك ودينا اسمـــــه لا الجفـــاء
هـا أنت يا نسر قــــد حللت فــي دارالبقاء
***
فلا أدري كم يطول عمـــري حتـــى اللقاء
ما عرفتك إلا نقي السريرة والرحمــــــاء
***
والديار تبكيك رحمة في عرين العليــــــاء
يا روحا لم يغب نورهــــــا حلقـــت للسماء
***
رحمة ربي تنــــزل عليك غيثــــــاً يــا نسل
الأشــــراف فكنت لربــــك ملبيــاً النـــــداء ****
تقديم:.
شعر الرثاء بين العاطفة والخلود:
يُعدُّ شعر الرثاء من أعرق أغراض الشعر العربي، إذ يجمع بين الحزن النبيل والوفاء الإنساني والتأمل الوجودي. وقد كان هذا اللون من الشعر وسيلةً لتخليد الراحلين، وإبراز فضائلهم، وتسكين لوعة الفقد.
لقد رثى الشعراء أحبّاءهم من الأهل والخلّان، وحتى أنفسهم أحيانًا، كما في رثاء طرفة بن العبد أو الخنساء لأخيها صخر، أو البحتري
للخليفة المتوكل.
وفي العصر الحديث، لم يفقد شعر الرثاء مكانته، بل تزايدت جرعته العاطفية وأصبح أكثر ذاتية وتكثيفًا.
وعليه فقد تأتي قصيدة د. عطاف الخوالدة مرثيةً مؤثرةً كتبت لزوجها الراحل، واستطاعت الشاعرة أن تنسج من الحزن قصيدة تموج بالتجربة الصادقة والوفاء الأبدي، والتعبير الصوفي عن الموت كرحيل إلى البقاء.
ويمتاز هذا اللون من فنون الشعر وهو ( الرثاء ) بالصدق العاطفي والقدرة على تحويل الألم إلى إبداع، والحزن إلى إشراق لغوي. كما يتّسم شعر الرثاء بتكثيف الصور، واستخدام الرموز (كالنسر، والسماء، والضوء)، والاعتماد على التكرار والنبرة الخطابية الحزينة، مما يمنحه
خصوصية تعبيرية مميزة.
إن دراسة شعر الرثاء تتيح فهماً عميقاً للإنسان في مواجهة النهاية، وللشاعر وهو يُنقذ من يحب من النسيان عبر القصيدة. فالرثاء هو فن الخلود الشعري حيث يُقاوِم الشاعر الموت بالكلمة، والفقد بالذاكرة، والصمت بالبكاء المنظوم.
فكان الرثاء صورةً فنيةً للوفاء، ووسيلةً لمواجهة العدم، ونافذةً للتعبير عن الحزن المشروع بلغة وجدانية وروحية سامية..!
تحليل البنية الفنية والموضوعية لسباعية الرثاء:
إفتتاحية النداء: استدعاء الغائب واستحضار صورته..
القصيدة تُفتتح بنبرة نداء مفجعة، حيث توجّه الشاعرة خطابها إلى الزوج
عبر استعارة "النسر". والنسر في المخيال العربي كائن سامٍ، نبيل، يعلو عن الضعة، ويرمز إلى الحرية والسمو الروحي. بهذه الاستعارة، تُرفع صورة الفقيد من كونه إنسانًا إلى رمز يتجاوز الجسد والموت..!
تستهل الشاعرة قصيدتها قائلة:
أيها النسر حلقت في سماء غير سمائي
وما عرفــــت يا نســـر مني غيــر الوفاء
والسماء في البيت الأول تحمل دلالتين:
=السماء الأولى: سماء الحياة، التي تشاركاها سويًا.
=السماء الأخرى: سماء الموت والخلود، التي حلّق إليها وحده..!
وهنا الشاعرة لا تخاطب الزوج باسمه، بل عبر رمز النسر، وهو اختيار دلالي فالنسر رمز للشموخ والعزة، والارتفاع عن الدنايا، وهو ما يعكس تصور الشاعرة لزوجها كروح نبيلة عرفت طريقها إلى السماء بعد أن أدت رسالتها.. وهذا الترميز يُضفي على النص عمقًا ميتافيزيقيًا يتجاوز التجربة الشخصية إلى الأفق الإنساني والروحي..!
التحول من الثنائية إلى الوحدة( بين الحضور والغياب):
وتستكمل الشاعرة في مرثيتها قائلة:
أيا نسر قد هجرت عريـنك هذا شقائي
وجعلتنــي كهائم تائـه في الصــــحراء
تتحول العلاقة من "نحن" إلى "أنا"، من ازدواج الحياة إلى فردانية الفقد. فالهجر هنا ليس فعلاً اختيارياً، بل قسريٌ سببه الموت، لكنه يحمل قسوة البعد العاطفي، وتحوله إلى ضياع وجودي. الصحراء في الصورة توحي بالتيه، العزلة، الجفاف، وتحوّل الزمن إلى خواء.
***
الحس الديني في المرثية بين التسبيح والمآل:
تحضر هنا النزعة الدينية الصوفية في المرثية:
لا أدري كم العيش دونك في دارالفناء
فصوت تسبيحك يذكر صبـحاً ومســاء
***
وهنا تُمجّد الشاعرة زوجها كرجل تسبيح وذكر، وهي تقدم رؤيتها للموت لا كفناء، بل كحلولٍ في "دار البقاء" وهو تعبير إيماني يقدّم عزاءً ضمنيًّا. هذه الصورة تحول لحظة الرثاء من بكائية إلى نوع من التسليم المؤمن.
الإمتداد الزمني في السباعية بين الإنتظار والشوق:
يعكس هذا البيت توتر الزمن بين الحيّ والراحل:
فلا أدري كـــم يطول عمري حتى اللقاء
ما عرفتك إلا نقي السريرة والرحماء
والفقيد هنا ليس فقط محل حزن، بل نموذج أخلاقي يحمل خصال الرحمة والنقاء.. والرثاء يتحول من حزنٍ شخصي إلى تقديس لقيم إنسانية عاش بها الراحل وغادر بها.
فالزمن لم يعد يقاس بالأيام، بل بـ"كم يطول حتى اللقاء"، وهو توق زمني عاطفي يمهّد للأمل باللقاء الآخر.
كما يُسجّل البيت مديحًا أخلاقيًا عميقًا للفقيد، بالتركيز
على طهارة القلب والرحمة.
***
الفضاء العام.. ( بين الديار والسماء) في مرثية د. عطاف:
تتجلى هنا صورة الفقيد ككائن نوراني:
والديار تبكيك رحمة في عرين العلياء
يا روحاً لم يغب نورها حلقـــت للسماء
ما زالت روح الفقيد تضئ حتى بعد الرحيل. الجمع بين "الديار" و"السماء" يوسّع من أفق القصيدة، فالفقيد غادر الدار الأرضية إلى العلو، ولكنه ترك أثرًا، ونورًا، وبكاءً في الأمكنة.
الهوية وسلالة الأشراف :
رحمة ربي تنزل عليك غيثـاً يــا نسل
الأشراف فكنت لربك ملبيــاً النـــــداء
وهنا يظهر البعد الاجتماعي في البيت الختامي، حين تُعيد الشاعرة تعريف زوجها ضمن نسب الأشراف، وكأنها تُودّع رجلًا يمثل شرف العائلة، وجذر الأصالة. كما أن الدعاء هنا يحمل نبرة ختمية، تؤطر الحزن وتمنحه صورة دينية مهذبة في رثاء زوجها العزيز لتجعل من القصيدة مزيجاً من الرثاء والدعاء والمديح في آنٍ واحد..!!
الأسلوب الفني في مرثية د. عطاف الخوالدة:
اللغة في السباعية: امتزجت بين البساطة والرمزية حيث استخدمت الشاعرة ألفاظًا عاطفية وصوفية دون تعقيد.
الإيقاع في النص: اعتمدت على الوزن الحر وإن لم تلتزم بعروض صارم لكن النغم العام حزينٌ شجي متماسك.
التراكيب في المرثية : توظف الشاعرة نداءاً وتكراراً وتوازيات نحوية تعزز الأنفعال كـ لا أدري.." وها أنت.. وهكذا من جمل التراكيب التي خدمت النص وشكلت بنيته.
***
الخاتمة:
.
الوفاء أبلغ من الحزن:
إن مرثية د. عطاف الخوالدة لزوجها الراحل ليست مجرد قصيدة عزاء
بل هو نص وجداني إنساني صادق يُعبّر عن ألم الفقد بكرامة، ويُعيد تعريف الموت كمقام للخلود، لا النهاية. وقد وظّفت فيه الشاعرة رموزًا راقية وصورًا مؤثرة، وأسلوبًا مزيجًا من الرثاء الصوفي والإنساني لتكتب بذلك مرثية خالدة في معناها، سامية في وفائها.
وتعد د. عطاف الخوالدة نموذجًا صادقًا لما يمكن تسميته بـ"الرثاء الشفيف" حيث لا تنفجر العاطفة في صخب مبالغ، بل تتسلل عبر كلمات شفافة إلى وجدان القارئ..إن القصيدة ليست فقط حنينًا إلى زوج راحل بل هي مرآة لما تتركه الخسارة في ذات المرأة التي تواجه الحياة بعد الوداع.
ومن هنا إستطاعت أن ترسم الشاعرة لوحةً إنسانية خالدة في ذاكرة الوجع، دون أن تنزلق إلى التهويل أو العويل ، بل اكتفت بنبرة وفاء نقيٍّ صامت، هو أبلغ من كل نحيب.
وفي تجارب الرثاء النسوي خاصة تبرز رهافة الإحساس وعمق الإرتباط العاطفي، حيث لا يكون الرثاء تذكّرًا فحسب، بل تجليًا للذات وهي تحاول أن تتعافى عبر الكلمة، وأن تتلمّس طريقها في ظلال الغياب..
فالرثاء هنا ليس مجرّد مرثية، بل طقس وجودي، ونداء حبٍّ خالد..!!
بقلم : الشاعر والناقد والناشر د. سيد غيث ..
توثيق: وفاء بدارنة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق