قصة قصيرة "طريق العابرين"
النادي الملكي للأدب والسلام
قصة قصيرة "طريق العابرين"
بقلم الشاعرة المتألقة: نور شاكر
قصة قصيرة "طريق العابرين"
بقلم نور شاكر
ضاع الطريق من قدميها، حينما اشتدّ الغروب في عينيها، فلم تعد ترى سوى ملامح متكسّرة للعالم، ظلالًا زاحفةً على أطراف الذاكرة، وغبارًا يتراقص كأشباحٍ هاربة من مرآةٍ محطّمة.
كانت تسير وحدها، وصوت الريح يهمس باسمها، كأن الأرض نفسها تناديها: "تعالي...". لم تكن تعرف من أين أتت، ولا كيف انتهى بها المطاف إلى هناك، كل ما في الأمر أنها كانت تركض، تركض من شيء لم تستطع أن تُسمّيه، لكنّه كان يطاردها في كل منعطفٍ من قلبها.
القرية ظهرت لها فجأة، كصفحة سقطت من كتابٍ قديم، فتحتها الصدفة حين ضجّت الحياة حولها بالصمت. بدت مهجورة، لكنها لم تكن ميتة؛ بل كأنها في سباتٍ عميق، تنتظر من يوقظ فيها الذاكرة.
التراب هناك لم يكن ترابًا عاديًا، بل يحمل لون الحنين، وكان الهواء كثيفًا برائحةٍ غريبة، كأن النار مرّت من هنا منذ قرون، ثم بكت فصارت دخانًا.
البيوت تقف على أعمدةٍ واهنة، تتمايل كأرواحٍ تبحث عن أجسادٍ تنتمي لها. نوافذها مفتوحة، بلا زجاج، بلا ستائر، فقط فجواتٌ سوداء كأعينٍ سهرَت طويلًا على حزنٍ لا ينتهي.
ورغم هذا الخراب، لم تكن القرية خالية تمامًا...
رأتهما.
رجلان.
أحدهما بلا قدم، ومع ذلك كان واقفًا بثباتٍ يُربك قوانين المنطق. كأن قدمه المبتورة لم تُنقص من قامته شيئًا، بل زادته سموقًا. عيناه واسعتان، تضيئان بما يشبه الرأفة الأولى التي خُلقت قبل أن يُخلَق الألم.
والثاني، لم تكن ملامحه قبيحة وحسب، بل موحشة، كأنما تجمّع فيه كل ما أرادت الحياة أن تخفيه خلف ستائر الجمال. لكن خلف هذا القبح كان هناك شيءٌ صامت... شيءٌ يشبه البكاء الذي لم يجد لغةً ليخرج بها.
حين رأياها تتهاوى، أسرعا نحوها.
سقطت، وارتطم جسدها بالأرض. لم تكن متأكدة إن كان الألم في ركبتها التي جُرحت، أم في شيء أعمق، شيءٍ يسكن في صدرها منذ زمنٍ لا تتذكّره. كانت تشعر بأنها تتفكك، لا من التعب، بل من التشرّد النفسي، من التيه الذي لم يكن خارجيًا فقط.
اقتربا منها، لم يتكلّما. ضمّدا جراحها بقطعة قماشٍ مُهترئة تفوح منها رائحة الطهر، وسقياها جرعة ماءٍ من قِربةٍ قديمة بدت وكأنها تروي العطش لا بالماء، بل بالسكينة.
لم يسألاها من أين أتت، ولا ماذا تفعل هنا، لم يتطفّلا، بل قبِلا وجودها كما هو، كأنها جزءٌ من هذا المشهد، مرسومةٌ سلفًا في قدَر القرية.
ثم...
حدث ما لا يُصدّق.
الرجل بلا قدم، انحنى، ووضعها على ظهره.
وسار.
نعم، سار.
كان المشهد خارقًا للمنطق، لكنه كان حقيقيًا. لم تكن تحلم، فالألم في جسدها كان واضحًا، ورائحة التراب كانت تملأ أنفها، وقلبها... قلبها كان ينبض بشدّة، كأنّه يُصفّق لهذا الجمال المفاجئ.
سار بها وكأن الأرض تطاوعه، وكأن الريح تفتح له الطريق، وكأن القدر نفسه يُصفّق: ها هو النقصُ يُكمل، وها هو العجزُ يتحوّل إلى معجزة.
لم تسأله إلى أين يذهب بها. لم تحتج أن تعرف. كان الطريق في تلك اللحظة لا يقودها إلى مكان، بل إلى معنى.
في قلبها، كانت تبكي.
ولأوّل مرة منذ زمنٍ طويل، لم تكن تبكي خوفًا، ولا ضعفًا، بل تبكي من شدّة السلام، من نقاء اللحظة، من عذوبة الرحمة حين تسري بين أضلاعك دون أن تطلبها.
ثم... من بين الضباب، لاح ضوء.
سيارة قديمة تلمع رغم صدأها، كأنها تحمل بشارةً لمكانٍ طال انتظاره. نزل منها رجل يرتدي ما يشبه الزيّ العسكري، لكن وجهه كان أبعد ما يكون عن القسوة. لم تفهم ما قاله، لكنها شعرت أن كلماته أشعلت الضوء في عيون الرجلين.
ابتسموا.
لا... لقد فعلوا أكثر من ذلك.
ضحكوا وبكوا معًا، وراحوا يهلّلون، كأنهم خرجوا من سردابٍ دامك إلى فجرٍ صادق. لم يكن المشهد عاديًا، كان مهيبًا، كأن السماء نفسها باركت هذه اللحظة.
فوقفت، رغم ألمها، وشعرت بشيءٍ يهزّها من الداخل.
راحت تهلل معهم، دون أن تفهم تمامًا ما تهلل له، لكن روحها كانت تفعل، وكانت تهمس داخلها بأن هذا النور لم يأتِ لهم وحدهم... بل جاء لها أيضًا.
في تلك اللحظة، أدركت:
أنها لم تكن تبحث عن طريق.
بل كانت، طوال الوقت، تبحث عن بشر.
بشرٌ يشبهون هذا الرجل الذي بلا قدم، وهذا الآخر الذي خُلق ليُخفي الحكاية، وهؤلاء الذين يفرحون رغم الشظف، الذين يمدّون أيديهم في صمت، في عتمة، ويضيئون بكلماتٍ لا تُقال.
ابتسمت، وهمست لظلّها الذي صار أقصر مع النور:
"قد وجدت الطريق... لا لأنه واضح، بل لأن أحدهم حملني إليه."
ثم مشت.
مشت بخطواتٍ بطيئة، لكنها لم تعد تجرّ جسدها، بل تحمله.
لم تكن وحدها.
فالقلب حين يعرف الرحمة، لا يعود غريبًا أبدًا.
بقلم : نور شاكر
توثيق: وفاء بدارنة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق