*** حُلم ابتلعه البحر. ***
النادي الملكي للأدب والسلام
*** حُلم ابتلعه البحر. ***
بقلم الشاعر المتألق: ماهر اللطيف
*** حُلم ابتلعه البحر. ***
بقلم: ماهر اللطيف
ذات صباحٍ رماديٍّ، مخضّبٍ برذاذ الذكريات، جلستُ أستعيد وجهه الغائب، ملامحه المنحوتة بالقلق، وضحكته القصيرة التي كانت تُخفي أكثر مما تُظهر.
تذكّرتُ صديقي المرحوم شفيق، الذي غادرنا منذ سنوات، حين اختار أن يركب موج البحر، على أمل الوصول إلى "حُلمٍ ما".
كنا، يومها، نمرّ بمرحلة حالكة السواد: بطالةٌ مريرة، كسادٌ شامل، وطنٌ يَعِد كثيرًا ويُعطي قليلًا، وشهادات جامعية تزيّن الجدران، ولا تفتح باب رزق.
نجلس على رصيف الحي، نقتسم سجائر رخيصة وكلماتٍ كبيرة، حين قال لي بصوته الهادئ:
— "الدنيا لم تُعطني كل شيء... لكنها منحتني ما أستحق. كلّ شيءٍ يأتي بقدر."
قاطعته، بحدّةٍ فيها يأسٌ أكثر منه سخرية:
— "احمد الله واشكره!"
ضحك بهدوء، وأجاب:
— "الحمدُ واجب... لكن دعني أقول: أحلامي يا صاح كثيرة، لا سقف لها. وما تحقّق منها... أقلّ من القليل."
ابتسمتُ على مضض، وردّدت:
— "أنت تريد، وأنا أريد، والله يفعل ما يريد."
أسند ظهره إلى الحائط، وأسدل جفنيه قليلًا كمن يغرق في تأمّلٍ عميق، ثم همس:
— "تعرف ما يُؤلمني؟ أننا نحلم بما لا نملك، ونموت دون أن نعرف إن كنا نستحقّه فعلًا."
كنا نغوص في الحديث كما يغوص الغريق في الماء، نُقارن بين ما نشتهي وما نملك، بين أحلامنا الهائلة وواقعنا الضيّق كالكفن.
ثم كنّا نُسلّم في النهاية لحقيقة لا نملك لها ردًّا:
> "الله هو العدل المُطلق. لا يمنعنا إلا لحكمة، ولا يمنح إلا لغاية.
يخلقنا كما يشاء: أجناسًا، ألوانًا، أعمارًا، أقدارًا، ويختبرنا بما قسم لنا."
كان يؤمن بذلك... أو يقنع نفسه أنه يؤمن. وكنتُ أصدّقه، لكنني لم أطمئن.
قال لي مرةً:
— "لو أعطى الله لكلٍّ منّا ما يتمنّى، فمن سيخدم من؟ من سينظّف؟ من يبني؟ من يُهاجر؟ من يموت؟
التوازن يا صاح... هو قمة العدل."
افترقنا بعد ذلك اللقاء بأيام. لم يُخبرني بنيّته، لكنه كان يُهيّئ قلبه للمغادرة...
استقلَّ "مركبَ الموت" مع عشرات الشباب، مزوَّدًا بأملٍ هشّ، وخريطة حلمٍ غربيّ، وحديثٍ عن الثروات، والرفاه، والكرامة.
لكنه لم يصل.
غرق القارب، واختفى شفيق.
لم يعثروا على جثته.
قالوا إنّ الحيتان التهمته، أو أن البحر احتفظ به لنفسه...
لكنني أعلم، في قرارة نفسي، أن شفيق لم يكن يبحث عن أوروبا، بل عن معنى لحياته.
في صلاتي، في ليالي الشتاء، حين أسمع نحيب الرياح فوق السطوح، أستعيد وجهه...
كان يحلم، مثلنا جميعًا، لكنه أخطأ الطريق.
ربما كان أقرب إلى الله منّا، حين قال ذات يوم:
> "ولكل أمةٍ أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون."
(الأعراف: 34)
رحمك الله يا شفيق.
لقد كنتَ الحُلم، وكنتَ الضحية.
بقلم : ماهر اللطيف
توثيق: وفاء بدارنة


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق