#قراءة نقدية بعنوان تجليات الذات #
رابطة حلم القلم العربي
#قراءة نقدية بعنوان تجليات الذات #
بقلم الناقد المتألق: الجيلالي شراح
#قراءة نقدية تحت عنوان : تجليات الذات #
الشاعرة "في ديوان:"صحيفة المتلمس"
للشاعر العراقي عبد الأمير خليل مراد
----------------
من خلا عنوان الديوان"صحيفة المتلمس" الذي جاء مركبا إضافيا، يتألف من مضاف ومضاف إليه، وقبل الخوض في تلاوين قصائده، تجدر الإشارة إلى الحمولة الدلالية لهذا المركب من الكلم،فإن كان مدلول الشق الأول منه واضح الدلالة والمعنى،فإن الشق الثاني يترك التباسا؛فالمتلمس هو جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن دوفن بن حرب، شاعر جاهلي، صحب طرفة بن العبد في رحلته من العراق إلى البحرين،غير أن المتلمس قذف بصحيفته في نهر الحياة وراح هاربا إلى بني جفنة ملوك الشام بعد أن عرف ما أضمر له في هذه الصحيفة من مصير.
فماهي الحمولة والأبعاد الدلالية من وراء استحضار هذه الشخصية كعنوان للديوان؟ وما الرسالة من وراء القصد؟ وما هي الظروف والحيتيات العامة والخاصة التي استدعت ذلك؟
يتألق الديوان من أربع عشرة قصيدة، تختلف فيما بينها من حيث عدد الفقرات، وفي الطول والقصر، وإن اختلفت في الشكل، فهي تكاد تتوحد في الموضوع، مع اختلاف الأزمنة والأمكنة، إذ يفتتح الشاعر ديوانه بقصيدة مفتاح" احتمالات" يصدح فيها الشاعر بالانهيار والضعف بين ثنائيتي: الأنا و الهو، هذه الذات الغائبة تتحول إلى الأنا الواعية بتلابيب القصيدة، فالقذف والدوس والصراخ والضجر، تأوهات تصدر من ذات معذبة، قلبها يداس من كل جانب" قلب مدجج بالحزن"، فالحزن و الألم الذي فاق حده جعل الشاعر يتلهى عنه بالتعالي عبر حضرة "لطمية" "يشدو فيها شدوه ويغرد تراتيله كعصغور يطير بين السفح والسماء"، تعبيرا منه عن التعالي والسمو عن الآهات والعذابات الروحية تارة، والانغماس فيها تارة أخرى، وهو انعكاس مستغرق في الزمان والمكان" الذي لا يتنفس غير الصعداء"، ناهيك عن ذكر الأحباب والأصدقاء الذين ما وفوا بالوعد" لم أعرف من بحر سذاجته"هذه" إلا نخلة" عرقوب"، ما اضطر الشاعر إلى ركوب فرسه وملاقاة الفلاة، هاربا من هذا التدمر زاهدا متصوفا، وهي شطحة من شطحات الحلاج.
في القصيدة الثانية"سبع قصائد" يستحضر الشاعر رمزية العلماء والمشايخ؛ عربا وأجانب، بالإشارة إلى الطيلسان،وهو وشاح يلبسه خواص العلماء والمشايخ، مع استحضار رموز شعرية بصمت حقبا تاريخية بالرقي والسمو، كابن عربي بالأندلس، وكذا الشاعر الرسام والفنان "لوركا"، مع الشاعر الكاتب والدبلوماسي الشيلي"نيرودا".
والشاعر يعبر عن الانحباس والضيق والاكراه، مع الخوف وعدم الاطمئنان، أدى إلى اختفاء المشايخ؛قصيدة"في التراب"، "وراء الأكمة ما وراءها"؛ للتعبير عن أمر مريب أو مكيدة وراء شيئ ما، بالشوق والحنين لمكان عشقه الشاعر وأحبه" أكمة تفيض خصبا، وعطش الصحراء يولول في صدري"، يتساءل الشاعر لو ينزع خمرة عشقه للمكان بعودة الألفة إلى المجامع والأصدقاء "في أكمة" ف "الفرسان تلوك ألجمها والنواعير عادت من قصب"، فكيف يكون لها الاغتراف من عمق الوادي!؟
صرخة لكل الشعراء، يخاطب الأحاسيس بالتعبير عن الموت الذي يذب ٱلى الذات الشاعرة" تصرخ الآن في هيكلي"و"تلم المزامير من شفتي الذابلة" وهو يستحضر رمزا من رموز الفكر والأدب في شخص ناجح المعموري، بإهدائه قصيدة"قطاف" لتميزه وتفرده بجذوة الإبداع المتقدة بداخله،كما كان معروفا بالبحث في الأساطير، فرؤى الشاعر في هذه القصائد تتقاطع مع القصيدة خاتمة الديوان"القصيدة"ص:92، وهي مهداة منه إلى الشاعر والكاتب خيري منصور الذي يشير في بعض أعماله الأدبية إلى أن"الاهتداء إلى الأسطورة هو ابتكار من الانسان كما في الزمان الاغريقي،حين يلتبس الميثولوجي بالواقعي، مقابل ذلك الزمن هناك أزمنة عادت إلى الأسطورة باعتبارها الاحتياطي الذي يستدعى ليسد فراغا عميقا في الواقع،ومثال هذا الزمن القرن العشرون،الذي شهد إعادة إنتاج الأساطير أو الإحالة إليها"خيري منصور.
إذ استحضر الشاعر هذا الجانب في ديوانه" كلكامش" كأسطورة، فما الدوافع التي دفعت بشاعرنا إلى استحضارها!؟ وهو الشاعر المثقف الواعي، يعي تأزم الأوضاع وترذيها اجتماعيا وثقافيا وروحيا! ما الغاية! وهل وفت بالغرض وكانت ركوبا طيعة؟
هي الذات لا مأمن لها بالمكان الذي ضاق أفقه، فكان الافتراق:"لا النجمة تحتضن عاشقها" "لا العاشق يحتضن نجمته"،ص:29
هي اللمسة ذاتها تسري على مجموعة قصيدة"إيماءات بعيدة"فهي تعبر عن تنائيتي الخوف والحلم،التيه والاغتراب،أدى إلى الخروج من دائرة الزمن، ما استدعى استحضار شخصية البشر،الصوفي الزاهد(الحافي) لرثق الجراح الطافحة ومداواة العلل،"هذا عشق نبي يختصر الماضي"
ويرقق بالبشر مواجعنا الأولى"ص:38
هي المكابدات لم تثن الشاعر عن التمسك بالذات الشاعرة وسط العتمة باستوقاف أصحابه: "وقوفا فلي أحرف"،ص30 ، وإن كان ذلك نال من عزيمته برثاء الشاعر لحاله، وما آلت إليه أوضاعه بالخوف الذي يلازمه، نتيجة ما عاش ويعيش بعد فقد فلذات الأكباد.
غير أن الشاعر في قصيدة" تقاسيم الناي الأولى" نجد عينة من الكلمات تتكرر بمعظم فقراتها؛ الناي/الحلم/الوجع، حيث تكرر ذكر الناي أربع عشرة مرة، والحلم ثمانية عشرة مرة، أما الوجع والضجر والصراخ، وما يمت لها بصلة كالصدر والقلب، فتكررت ستة عشرة مرة، مع تكرار الخيول ست مرات، والطائر سبع مرات، والحجول كذلك، وكلها تعبير وثوق من الشاعر إلى رفع الواقع البئيس،أو تجاوزه ولو بشطحة صوفية، وهي غاية ومطمح الصوفي الزاهد الذي يسعى إلى العبادة الحقة دون خوف.
وهو ما دعا بالشاعر إلى الاهتداء بالتناص الديني ليصبغ أشعاره بنفحة دينية تتناغم مع توجه مذهبه:
ربما أدرج كحاطب (في واد غير ذي زرع) نجيا
" لم يزل ذو النون في البحر سريا"
"أو وارد دلو يصرخ يا بشرى"
إيحاءات إلى محن الأنبياء، منها عذابات نبي الله يوسف وما لاقاه من معاناة ممافعله به إخوته، تبعها ذكر "القتل": "طفقت بالخنجر المسموم... يعوي"
"ثم صارت لبني قابيل علامة"، وبموازاة هذا تم استحضار شخصية الحجاج برمزيتها وحمولتها التاريخية:
"وأصرح للعشق رؤوس"
"تصحو والحجاج يقلبها"ص62 ، مع استحضار متكرر لشعراء وفلاسفة بصموا ونحثوا أسماءهم عبر تاريخ الانسانية،بأعمالهم التي ارتقت بهم وتعالت
إلى مراتب السمو، وهو يشهدهم على ما آلت إليه الأوضاع، ليخرج من ذاته
" أكسر مرآتي" فهو تعال عن الرذاءات في حضرة حلاجية تصعده إلى السماء" طائر بين السفح والقمة" قصد تطهير النفس من كل العذابات والآهات.
وفي ذات الصلة جاءت قصيدة"الطائر" ألما ومعاناة، مع التعريج على المكان الذي شب فيه الشاعر وترعرع، بقصيدة "العتايج"والتي أصلها في اللغة العربية"العتائق"فتم تغيير الجيم قافا حسب اللسان الدارج للعراق، وهي القرية التي ولد بها الشاعر،فعبر عن زمن الدرس والتحصيل بها في فترة الابتدائي، لينتقل بعدها إلى مركز مدينة الحلة لمتابعة الدراسة بعيدا عن الأهل، وهي مكابدة أخرى للعيش، بحكم أن قرية العتايج، عانت بدورها كقرية سكانية، إذ بالرغم من عدد ساكنيها كانت تتوفر بها مدرسة ابتدائية واحدة.
نفس الحال بقصيدة "الأرجوحة" التي يعبر فيها عن الوحشة والفقد والظلام والظمأ:"لاشيئ سوى رجع الذئب"
"لا فرق ...فكل العالم... ظلماء في ظلماء" ص:78-79
إلى أن نأتي إلى القصيدة ماقبل الأخيرة بالديوان"صحيفة المتلمس" والتي تتألف من تسع فقرات، حضرت فيها ذاتية الشاعر بشكل واضح، مختلفا عنه بباقي القصائد
"وأنا" كصياد يبحر في المخطوطات، مع إغراق المقطع الأول بأفعال مضارعة قوية: أحصي- أقف - أتأمل - فلا أرى،
مع ضمير المتكلم، أوأسماء مضافة ٱلى ضمير: كأنني- ورأسي - رأسي
في المقطع الثاني:
" من يملأ كوزي... وتلك دفوفي"
"تجررني...وبعودي"
"حتى يعصر ماتبقى من أوصالي..."
"وسأحفر...لعلي أجد"
في المقطع الثالث، يستحضر مقولة مأثورة للنفري وما تحمله من حمولة دلالية ورمزية دينية.
في المقطع الرابع تأكيد من الشاعر على العمل وتأكيد العمل: "سأمحو...وأمحو...حتى أبلو من أبنائي بغيابي في الجب، مع تناص قرآنية واضح(بشيئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والانفس والثمرات)
في المقطع الخامس يكرر الشاعر كلمة:"طوبى" ست مرات، بعد أن زهد في كل شيئ، فالموروث موت،فيعود في المقطع السادس إلى جسده الناحل في المستقبل ليدثره بالجمر، فكيف لجسد أن يدثر بالجمر!؟ ليقول
" تقرضني الأيام والليالي كأفعى
يخطفها الخلود"
هذا الشطر في هذه القصيدة، يتقاطع مع شطر في إحدى القصائد بديوان"مكابدات الحافي":"ألا من الأيام تأكل أضلعي"
مع ذكر شطر آخر بقصيدة " أرشية الطائر المبهوت":
"أيامي تأكل أيامي"ص 63
ف"سآوي إلى جبل يعصمني"، تناص قرآني يقصد به الشاعر تحصين نفسه من كل الأذران، فيعود الشاعر ليؤكد أن وقت تكسير المرآة قد حان:"آن لي ياهذا أن أكسر مرآتي"
"كي أخرج من حبائلي كطير"
"أبق إلى الفلك المشحون"
ص 87
نفس التيمة أشار إليها الشاعر في ديوان"مكابدات الحافي"، مع تكرارها أكثر من مرة في ديوان"صحيفة المتلمس"
" حين لم يعد وجهي جميلا في مرآتك"
"دعني أكسر مرآتي بالمطر"
ص 18
كل هذه الآهات والعذابات،كانت ذريعة كافية للشاعر كي يخرج من جبته ليلبس ذراعة وكساء الحلاج، ليريح ذاته فتستريح، لتشدو شدوها وتراتيلها وفق حلمها، عبر معزوفة ترانيم نايها.
ديوان " صحيفة المتلمس"
ديوان عميق، جل القصائد به أفعالها مضارعة تشي بالحركة والمشاركة في فعل الفعل بتأكيد ورغبة كبيرة.
الكلمات تتشابك فيما بينها، تتمازج فيها الأسماء بالرموز، فلا تغذق بالمعاني
إلا باستحضار مفاتيحها.
حروف قصائد الديوان متآلفة لا متنافرة، جهرية قوية صادحة، تصدح بواقع مرير عذب الشاعر ومحنه، ساهمت في توفير هالة كبيرة من الأبعاد ذات الحمولات الدلالية والفكرية التي ميزت الديوان، زاده بهاء استحضار الجانب الأسطوري والرمزي الذي ساهم في تكثيف الأبعاد الدلالية.
مراعاة لما ذكر تمكن الشاعر و بحنكة، وهو المثقف الواعي بواقع حال الجوانب الفكرية والثقافية والاجتماعية، ناهيك عن الجانب الاقتصادي والسياسي، من تمرير ديوانه " صحيفة المتلمس" إلى القارئ بسلاسة و دون عناء./.
بقلم : الجيلالي شراح
المملكة المغربية
توثيق : وفاء بدارنة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق