*** حُلمُ الكِتَابَةِ. ***
النادي الملكي للأدب والسلام
*** حُلمُ الكِتَابَةِ. ***
بقلم الشاعر المتألق: حسام الدين
*** حُلمُ الكِتَابَةِ. ***
بِـقَــلـم الأستاذ: حُــســام الـــدِّيــن طــلــعــت
......................................
كُلَّمَا أمسَكتُ بقَلَمِي؛ حتَّىٰ أَشرُعَ فِي كِتَابَةِ وإخرَاجِ تلكَ السُّطُورِ التَّاليَّة، أستَخدِمُ أسوَأ الأسلِحَةِ علىٰ الإطلَاقِ، ألا وَهُوَ: سلَاحُ حَرفِ (السِّين)، وأقُولُ مُخَاطِبًا نفسِي: س أكتُبُ بَعدَ قَلِيل، وإنْ لَمْ أتَفَرغْ للكِتَابَةِ بَعدَ ذَلِكَ القَلِيل، أقُولُ لنَفسِي مُجَدَدًا: س أكتُبُ اللَّيلَة بَعدَ نَومِ أطفَالِي، لَكِنَّنِي أغُطُّ فِي نَومٍ عَمِيقٍ قَبلَهم جَمِيعًا، وأُسمِعَهُم مِن السمفُونيَّاتِ أقبَحَهَا وأردَأهَا علىٰ الإطلَاق، سمفُونيَّةُ شَخِيرٍ لَا تَنقَطِعُ مُطلَقًا إلَّا بَينَ الحِينِ والآخَرِ.
أستَيقِظُ مُتَألِمًا علىٰ حَالِي، مُشفِقًا علىٰ نَفسِي، رَاثِيًا أيَّامَ الشَّبَابِ حِينَ كُنتُ أسهَرُ طُوَال اللَّيلِ، لَا يَهزِمُنِي تَعَبٌ وَلَا نَصَبٍ، لَا تُؤلِمُنِي قَدَمَايّ مَهمَا سِرتُ النَّهَارَ كُلَّهُ.
أمَّا الآن، فَقَد وَهَنَت الأعضَاءُ، واشتَدَّت الآلَامُ، وَظَهَرَت تَجَاعِيدُ السِّنِين تَعلُو الجِبَاه والوُجُوهَ والصُّدُورَ.
يَا لَهُ مِن زَمَنٍ قَاهِرٍ للحَيَاةِ، للشَّبَابِ، للفُتُوَّةِ، للأحلَامِ المُستَحِيلَةِ.
زَمَنٌ يُعلِنُ أنَّهُ مُفنِيك، وَيُعلِمُكَ أنَّك إلىٰ زَوَالٍ، فَلَا يَبقَىٰ إلَّا وَجهَهُ، بتَعبِيرَاتِهِ وَتَلمِيحَاتِهِ وَعَلَامَاتٍ يُبرِزُهَا تَارَةً وَيُخفِيهَا ألفَ تَارَةٍ.
وأعُودُ إلىٰ ذَاتِ اللَّحظَةِ، وأنَا أرتَدِي ثِيَابِي التِي اهتَرَأت مِن مَلَلِ رَتَابَةِ ارتِدَائهَا، تَكَادُ تَقُولُ: اخلَعنِي، لَقَد سَئمتُكَ، لَاهِثًا أُسرِعُ وأنَا مُمسِكٌ بكُوبِ قَهوَتِي السَّودَاء، رَاكِبًا حِذَائي المُتَسَارِعُ خُطوَهُ، لألحَقَ بحَافِلَةٍ تِلوَ الأُخرىٰ لأصِلَ إلىٰ مَدرَسَتِي التِي تَبعُدُ عَن مَنزِلِي حَوَالِي السَّاعة وأكثَر، وفِي نِهَايَةِ رِحلَةِ الحَافِلَات المُتَتَاليَّةِ أصِلُ مُتَأخِرًا كالعَادَةِ، وأسمَعُ صَوتَ جَرِسِ الطَّابُورِ الصَّبَاحِيِّ علىٰ بُعدِ سَبعِ دَقَائقَ مَشي.
وتَبدَأُ الحِصَصُ، الأولىٰ فالثَّانِيَةُ فالثَّالِثَةُ... إلىٰ آخِرِهِ، وتَتَوَالىٰ أكوَابُ القَهوَةِ والنِّسكَافِيه والصَّدِيقَةُ القَاتِلةُ (سِيجَارَتِي)، التِي ألهَثُ بسَبَبِهَا عِندَ صُعُودِي سُلَّمِ أيِّ بِنَايَةٍ عَرجَاء، هِيَ صَدِيقَةٌ مُلَازِمَةٌ لِي مُنذُ مَا يَقرُبُ مِن العِشرِينَ عَامًا، فليسَ مُمِمًا أنْ أمُوتَ بسَبَبِهَا أو بأيِّ سَبَبٍ آخَر، فَكُلُّ المِيتَاتِ أسبَابٌ حَادِثَةٌ قَبلَ الوُجُودِ، مُقَدَّرَةٌ، مُدَوَّنَةٌ قَبلَ أنْ تَبكِي عِندَ خُرُوجِكَ مِن بَطنِ أُمِّكَ، لِذَا لَا أكتَرِثُ، فالأمرُ سِيَان.
يَنتَهِي يَومِي الدِّرَاسِيُّ وأنَا غَائبٌ، وغَالِبًا مَا أكُونُ مُتَوَسِدًا ذِرَاعِي فَوقَ بُسُطِ مَسجِدِ المَدرَسَةِ؛ لأستَعِيدَ النَّشَاطَ، فلَمْ يَنتَهِ اليَومُ بَعد، وسَأبدَأُ يَومًا آخَر بَعد قَلِيلٍ، حَيثُ تَأخُذُنِي قَدَمَايَّ إلىٰ حَافِلَةٍ أو أكثَر مُتَوَجِهًا إلىٰ دَرسٍ خُصُوصِيّ، وفِي بَالِي وعَقلِي ويَدِي وقَلبِي حُلمٌ لَن يَتَحَقَقَ بسَبَبِ حَرفِ (السِّين)، حُلمُ الكِتَابَةِ.
تَتَكَرَرُ تِلكَ القِصَةُ الرَّدِيئَةُ كُلَّ يَومٍ، أصحُو مُتَألِمًا، وأنَامُ حَالمًا أنِّي انتَهَيتُ مِن تلكَ السُّطُورِ، لَكِنَّ الحُلمَ لَمْ يَتَحَقَقَ، وأعتَقِدُ أنَّهُ لَنْ يَتَحَقَقَ، حَتَّى وإنْ تَحَقَقَ، فَلَنْ تُزِيدَ كِتَابَاتِي وأسطُرِي البَشَرِيَّةَ عَبقَرِيَّةً، بَلْ سَتَمنَحَهَا العَبَثَ والهُرَاءَ بعَينِهِ؛ لأنَّ الحُرُوفَ والكَلِمَاتِ والجُمَلَ والخُطَبَ والأشعَارَ والدَّوَاوِين وكُلَّ مَا فِي العَالَمِ سَيَزُولُ للأبَدِ، ولَنْ يَتَبَقَىٰ سِوىٰ مَا سَطَّرَتهُ أيَدِي المَلَائكَةِ الكِرَامِ فِي كِتَابِكَ المَملُوءِ بخَطَايَا يَندَىٰ لَهَا الجَبِينُ، وَتشمَئزُ مِنهَا الأنفُسُ، نَعَم فالجَانبُ الخَفِيُّ فِينَا قَبِيحٌ، قَبِيحٌ، قَبِيحٌ، والشَّيطَانُ يَلعَبُ دَورَهُ بإتقَانٍ، ويُمَارِسُ ألَاعِيبَهُ المُتقَنَةَ المَرسُومَةَ لَهُ مُنذُ بَدءِ الخَلِيقَةِ، وبَدءِ الصِّرَاعِ بَينَهُ وبَينَ أبِي وأُمِّي، وأصبحْنَا الآنَ نَتَفَوَقُ علىٰ ذَلكَ الشَّيطَانِ بأفَاعِيلَ وأقَاوِيلَ وحَادثَاتٍ لَم يَتَخَيلْ أنَّهَا سَتَخطُرُ علىٰ بَالِ أبنَاء آدم، أرَاهُ دَائمًا يَقِفُ مِن بَعِيد مُشَاهِدًا، مُنتَبِهًا، مُصَفِّقًا لبَرَاعَتِنَا فِي الاقتِدَاءِ بِهِ والسَّيرِ علىٰ نَهجِهِ، بَلْ والتَّفَوُّقِ عَلَيهِ، لأنَّهُ ببَسَاطَةٍ لَمْ يَقتُلْ، ولَمْ يَزنِ، ولَمْ يَسرِقْ، ولَمْ يَسُبّ رَبَّهُ، ولَمْ يَجتَرئ علىٰ دِينِهِ أو مَحَارِمِهِ، بَلْ نَحنُ مَن فَعَلنَا ذَلكَ.
وأعُودُ بِكمُ إلىٰ نَفسِ اللَّحظَةِ التِي لَمْ تَحَقَقْ، وقَد عَزَمتُ علىٰ أنَّنِي لَنْ أتَخَلىٰ عَن الحُلمِ، لَكِنَّ حَرفَ (السِّين) يَهزِمُنِي مِرَارًا وتكرَارًا.
بقلم : حسام الدين طلعت
توثيق: وفاء بدارنة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق