" مرثية الحبر الأخير "
النادي الملكي للأدب والسلام
" مرثية الحبر الأخير "
بقلم الناقد المبدع : سعيد محتال
" مرثية الحبر الأخير "
الحبر المحترق:
تشريح الانهيار الوجودي للغة
" مرثية الحبر الأخير " نص يتجاوز كونه قصيدة ليصبح وثيقة وجودية، نجد أنفسنا أمام سيرورة الكتابة كفعل مقاومة ضد العدم. الإنسان لا يكتب من أجل الكتابة، بل يكتب ليبقى - كما لو أن الكلمات هي آخر خط دفاع عن إنسانيته المهددة بالزوال.
هذا النص يشبه إلى حد كبير في تجلياته "أوراق العشب" لوالت ويتمان، كتبها الشاعر في زمن ما بعد الحداثة، حيث تتحول النشوة الوجودية إلى كابوس لغوي.
فالقصيدة التي بين أيدينا نتيجة انفعال طبيعي تجاه الواقع المعاش، قصيدة نثرية تحمل في طياتها جرحاً وجودياً عميقاً، حيث يتحول فعل الكتابة من محاولة لتجميل العالم إلى فعل مقاومة يائسة ضدّ العدمية والوحدة. نحاول أن نخلق جمالاً مؤقتاً في فجوات القصيد، حتى لو كان هذا الجمال هشاً كاستعارة عاجزة عن حمايته من "بلادة الواقع".
فالشاعر ضمنيا يعترف بأنه كان يكتب كـ "محاولة يائسة" زمن تأزمة فعل الكتابة، الاستعارات التي كان يتكئ عليها (المجاز الهش، الجملة الناقصة) تشي بهشاشة اللغة أمام قسوة الواقع. كالمرآة العاجزة عن عكس أي شيء، أو شياك يجرح بدلاً من أن يحمي.
("اكتب وحدك") يُظهر انفصالاً وجودياً، فحتى الحب لا يستطيع أن يخلق معنى مشتركاً.
فصار اي شاعر مدان في هذا الزمان.. والحضور نفسه جريمة، والشغف مادة سوداء في قانون بلا عنوان.
وإحراق الحبر هو انتحار رمزي، لكنه ليس نهاية مأساوية، بل"رماد دافئ" يشبه قلباً توقف عن الحلم.
واللغة لا تموت، بل تتحول إلى "ندبة"، أي أن الألم يبقى حتى بعد توقف الكتابة.
ف"عينها مرآة لا تعكس"صورة للعلاقة العاجزة عن خلق أي اتصال حقيقي، أو اختراق الجمود العاطفي"روحها صخرة لا يشقها نبع ولا شعر".
لكن الكلمات تبقى حتى بعد تدميرها "الورق احترق… لكن اللغة وقفت على الرماد"..
نص جد مؤثر، لأنه لا يقدم يأساً عادياً، بل يأساً واعياً، مواصلة فعل الكتابة حتى اللحظة التي يقرر فيها إحراق الحبر. النص يُذكّرنا بـ "إميل سيوران" في رثائه للغة..
قصيدة تتحدث عن اللغة التي تظل عصية حتى على الإحراق. الشاعر لا يبكي، لأن البكاء اعتراف بالهزيمة، لكنه يفضل البقاء في حالة "إنكار كوني"… وكأنه يقول: "لو كان العالم لا يستحق الكتابة، فهو لا يستحق الدموع أيضاً. "
ف"الكتابة لا تمحى، هي تنتقل فقط من الورق إلى الندبة."
وجوهر النص كله: الألم يتحول، لكنه لا يختفي.
هو بيان وجودي عن أزمة اللغة في عصرنا الحالي. إنه يسائل: كيف نستمر في الكتابة عندما تفقد الكلمات معناها؟ كيف نحب عندما يصبح الحب مستحيلاً؟
حتى إن اللغة هنا لا تنتهي بالرماد، بل تتحول إلى رماد، وهناك فرق جوهري بين التحول والانتهاء. وكأن الشاعر يذكرنا بطائر العناق، هذا ما يجعل النص ليس نهاية، بل بداية لسؤال جديد: ماذا يبقى منا عندما تحترق كل كلماتنا؟ الإجابة ربما تكمن في ذلك "الرماد الدافئ" الذي يشبه قلباً توقف عن الحلم، ليس لأنه لم يعد يحلم، بل لأنه أصبح الحلم نفسه.
سعيد محتال
المغرب
*******
"مرثيّة الحبر الأخير"
كنتُ أكتب،
لا لأن العالم جميل،
بل لأنني أردتُ أن أجعله كذلك، ولو بين سطرين.
كنتُ أمشي على ضوء جملة ناقصة،
أتوكأ على استعارة
وأحتمي من بلادة الواقع بمجاز هش.
امرأة تسكن البيت،
لكنها لا تسكنني.
عينها مرآةٌ لا تعكس،
صوتها سياج من شوك،
وروحها…
صخرة لا يشقّها نبع ولا شِعر.
قلت لها:
تعالي نكتب معا فصلا لا يكون فيه أحدنا ظل الآخر.
قالت:
اكتب وحدك، لكن لا تطالبني أن أراك.
كلما أمسكتُ بالقلم،
كانت تنهض بداخلي محكمة
تحاكمني بتهمة الغياب.
تهمة الفرح…
تهمة أنني ما زلت أحلم.
كان حضوري جريمة،
وشغفي مادة سوداءَ في قانون بلا عنوان.
ذات مساء،
أحرقتُ الحبر.
لا ندم،
لا عزاء.
مجرد رماد دافئ،
كأنه قلب توقف عن الحلم.
لم أبكِ.
البكاء اعتراف،
وأنا كنت في حالة إنكار كونية.
الورق احترق…
لكن اللغة وقفت على الرماد،
كما يقف طائر ميت في انتظار قيامة.
أعرف الآن:
الكتابة لا تمحى،
هي تنتقل فقط
من الورق إلى الندبة.
الشاعر محمد احمد الطالبي
المغرب
توثيق: وفاء بدارنة