ظمأ الأرواح في زمن الإنجاز: حين يضيع القلب بين الهمّة والوحشة
النادي الملكي للأدب والسلام
ظمأ الأرواح في زمن الإنجاز: حين يضيع القلب بين الهمّة والوحشة
بقلم الشاعرة المتألقة: زهرة بن عزوز
ظمأ الأرواح في زمن الإنجاز: حين يضيع القلب بين الهمّة والوحشة
بقلمي: زهرة بن عزوز 🇩🇿
هناك دروبٌ كثيرةٌ في أعماق الإنسان، بعضها مرئيّ وبعضها خفيّ. ومع ذلك، فإنّ معظم هذه الدروب لا تُقرّبنا من معرفة ذواتنا الحقيقية، ولا تُساعدنا على إدراك ما كنا نُخفيه عن أنفسنا طوال حياتنا. وهذا يعني أنّ الإنسان المعاصر، عندما ينشغل بالسعي وراء النجاح والتميّز والكمال في العالم الخارجي، ينسى الجانب الأكثر حساسيّة فيه، ألا وهو الروح.
في التحليل النفسي، يُعتبر الإنسان كائنًا مثقلًا بالتناقضات: ما يرغب فيه حقًا، وما يُرسم له، بين تأمين ذاته والضغط الاجتماعي. إنّ إنكار الرغبة في إيجاد العزاء والمودّة يؤدي إلى جفاف عاطفي، ونشوء القلق كعرضٍ مستمر، واللامبالاة كشكلٍ من أشكال الحماية، والسخرية كدفاعٍ نفسيّ ضدّ ندبة داخلية. وتلك هي مأساة الإنسان المعاصر؛ حين يعتقد أنّه يتجه نحو الخلاص من ضعفه البشري، يغرق أكثر فأكثر في صحراء الاغتراب النفسي.
لكن، هل هذا كلّ ما في الأمر؟
هل الإنسان مجرّد نتاج صدماتٍ مكبوتة من سنوات التكوين، ودوافع جنسية واجتماعية، كما رأى فرويد؟
أم مجرّد وضعٍ اجتماعيّ يمارسه، كما اقترح لاكان؟
قد يُظهر علم النفس طبقاتٍ متعدّدة من الأقنعة، لكنه يبقى واقفًا على باب الروح، عاجزًا عن الخوض فيه. وهنا، تأتي الرؤية الصوفية لتُنير ما يخفيه الغموض، قائلة: ليس الإنسان دائمًا مكبوتًا فقط، بل هو أيضًا ما يتوق إليه، وما يتوق إلى الاتحاد به. من منظور صوفي، لا تُصاب الروح بالقلق فحسب، بل بالغربة أيضًا، نتيجة الابتعاد عن الله، وعن الذكرى، وعن الحب الإلهي.
ما يُطلق عليه المحللون النفسيون "عقدة النقص" أو "القمع اللاواعي"، يُطلق عليه الصوفي "الحجاب"، و"الإهمال"، و"البعد عن المحبوب". في هذا التوازي الغريب، لا يبدو التمييز مثاليًا. كلاهما يعترف بأن الإنسان مقسّم، مجروح، ويسعى إلى خلاصه في صورة الآخر أو في أحضان الذات العليا. لكنّ الصوفي لا يقف عند هذا الثقب، بل يعبره. لا يحتاج فقط إلى فهم ألمه، بل إلى إذابته في النور، ليشقّ سُلّمًا للحب من ذلك الألم.
يقول ابن عربي: "أحب نفسك".
قد تبدو هذه العبارة نرجسية في ظاهرها، لكنها في جوهرها تُوازي ما يقوله التحليل النفسي عن الإسقاط والهوية والحاجة: نبحث عن أنفسنا في عيون الآخرين، نبحث عن قربهم لنشعر بأننا مرئيون، وأن لتوترنا مكانًا يشمله، وأن لشعورنا صدى.
لكنّ الصوفي يذهب أبعد من ذلك، لأنّ حبّنا للاختلاف هو انعكاس لحبنا الأول: حب الواحد، حب المعنى الخفي في الوجود، حب البداية، حب الواحد، حب الحياة.
كثيرون ممن يكرّسون أنفسهم للإنجاز، وينسون أرواحهم، يعيشون حالة من "الخسارة المؤجّلة".
إنهم يطاردون إنجازًا تلو الآخر، ليس لأنهم عظماء فحسب، بل لأنهم يهربون.
هربًا من تعاسة غير معترف بها، من وحدة غامضة، من شوق مكتوم.
هنا يظهر التشابه بين الحلاج، الذي قال: "أنا الحق"، وبين التحليل النفسي، الذي يقول: "أنا الأنا العليا". كلاهما صوتٌ يريد أن يُسمع، ويُروى، ويُحتضن.
عندما يعاني الشخص من غياب المودّة في المراهقة، لا تختفي النتائج، بل تتكرر: في علاقاته، في غربته، في عزلته، حتى وهو بين الناس.
يقول التحليل النفسي إننا نبحث عن "الأمّ الضائعة" في كل ما نفعله: في زواجنا، في عبادتنا، في كتاباتنا، في صراخنا.
أما الصوفي، فيقول إن هذا الشوق هو "تذكار" للعهد الأول: "ألستُ بربكم؟" فيجيبون: "بلى".
هذا الشوق، الذي لا نفهمه، هو في الواقع شوق إلى البداية، إلى لحظة الوحي الأول.
في قلب هذا التفاعل، يُطرح سؤال:
هل نبحث عن الرحمة من الآخرين، أم من الله؟
هل جوعنا العاطفيّ للإنسانية هو في حقيقته اشتياق للإلهي؟
يجيب الصوفي دون تردد: "من لم يعرف محبة الله، لن يشبع من كلّ أحضان الدنيا".
ويقول التحليل النفسي بحذر: "من لم يعترف بجراحه الأولية، لن تلتئم مهما بلغ حبه".
بين هذين المنظورين، لا بد من الجمع بين الرؤيتين:
فالإنسان ليس مجرد كائن بيولوجي، ولا مجرد روح تائهة، بل هو هذا التوتر الجميل بين السماء والأرض، بين الروح والجسد، بين ما يشتهيه العقل وما يشتاق إليه القلب.
يعاني كثيرون اليوم ممّا يُسمى بـ"النجاح المُحبِط":
يحققون الأرقام، والمراتب، والدرجات، لكنهم من الداخل خواء.
هذا ما يسميه التحليل النفسي "النرجسية السلبية"، حين يُفرغ الإنسان حياته من معناها لصالح الصورة.
أما الصوفي، فيسميها "خواء الذكرى"، غياب عن الذات، رغم ضجيج المظاهر.
لا معنى لأي إنجاز إن لم يكن مرتبطًا بـ "القرب"،
ولا قيمة لأي نجاح إن لم يكن مشبعًا بـ "الحب".
لأنّ أيّ نجاحٍ خالٍ من الرحمة، هو، في جوهره، هزيمة خفيفة.
الصوفي لا يدعو إلى الانسحاب من الدنيا، بل إلى دخولها من باب القلب.
إلى الإنجاز، ولكن بالحب.
إلى الحب، ولكن بالتخلي.
إلى السعي للنجاح، لا تعويضًا عن نقص، بل تعبيرًا عن وفرة داخلية.
إلى اكتمال الذات من خلال ربّها، لا من خلال شهاداتها.
وهذا ما يحتاجه الإنسان المعاصر اليوم:
ألا يُجبر على الاختيار بين النجاح أو المحبة،
بل أن يجمع بين النقيضين: أن يكون قويًا ورحيمًا، عقلانيًا ووجدانيًا، ناجحًا وعطوفًا...
أن يكون مرآةً للحقيقة.
لعلّ الشفاء، في النهاية، لا يكمن في التقييم، ولا في العزلة، ولا في الرضا،
بل يكمن في إعادة ربط أنفسنا بجذورنا.
أن نسمح لدمعةٍ غير متوقعة أن تبلّل وجوهنا في لحظة صدق، دون أن نخجل من حاجتنا إلى الحنان، أو العناق، أو الدعاء.
فمن يُنكر هذا في نفسه، يُنكر جوهره، ويقضي حياته في صراع مع إنسانيته الكامنة، بينما كل ما عليه فعله هو: احتضانها.
لعلّ هذا هو أهمّ درسٍ صوفي:
أن الطريق إلى الله لا يمرّ فقط بالطاعة، بل بالصدق مع النفس، بالاعتراف بجراحنا، لا بالبكاء عليها، بل بتطهيرها.
أن نحب أنفسنا، لا لأننا كاملون، بل لأنّ الله أحبّنا قبل أن نكون كاملين.
وهكذا، حين تتصالح الرؤية العقلية مع الرؤية الصوفية،
ينحاز المرء إلى إنسانيته وخالقه،
لا ينكر ألمه ولا يقدّسه، لا يهرب منه ولا يغرق فيه،
بل يحوّله إلى دعاء، إلى لحن، إلى قصة تُروى... بشجاعة، برقة، وبصدق
بقلم : زهرة بن عزوز
توثيق: وفاء بدارنة


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق