الأربعاء، 8 نوفمبر 2023


أبي العزيز

النادي الملكي للأدب والسلام 

أبي العزيز

بقلم الشاعر المتألق: هيثم الزهاوي 

أبي العزيز 

( مواقف وعبر)

1- ( حنون )

---------------------------

كان حنونا بشكل مفرط وورثت منه ( بدون مبالغة ) ذلك الحنان , كنا نهرول أليه وهو عائد من عمله مساءاً ( وبشكل يومي ) ونترك ماكان يلهينا من لعب ونرتمي في أحظانه فيحملنا بكل فرح فتتسائل زوجة جارنا بأستغرب

 ألم يودعكم صباحا ؟ من أين تجيئون بكل هذا الكم الهائل من ألاشتياق 

2-( سباح ماهر)

---------------------------

كان سباحا ماهرا , لأنه نشأ وتربى قرب نهر الوند , أحب النهر فأحبه , فأمن شره , لا أدري لماذا كان يخوض النهر ماشيا عند نزوله له في البداية ، حتى تصل المياه إلى مادون كتفيه ، ثم  يمدُّ كلتا ذراعيه فيغوص عميقا، ثم يضهر في مكان أخر بعد أن يشد قلبي هلعا من الخوف عليه ثم يؤشر لي بيديه مع أبتسامة ما أحلاها . 

3-(كرم عن بعد)

-------------------------------

بعد مشيئة الله ولطفه بنا  , لم نكن نشعر بالعوز أو الحاجة حتى بعد أن غاب عنا لثمان سنوات حزينة قضاها في ألأسر، لم ينقطع عنا راتبه , وكانت رسائله دستورا لنا وخطة طريق , وكلماته التي يرسها لنا من بعيد تدثرنا بوّد عميق تجعلنا نشعر بوجوده بيننا، فنشكره في أعماقنا، كُلٍ على طريقته.

٤-( واثق )

لم يوبخني، حين علم بفشلي في أحد ألأختبارت وحصولي على درجة ضعيفة فيه , فقط أستمع ألى عذري وصدقه , ثم دعى لي وتأمل أن أنجح بتفوق كالعادة وكان له ما تمنى بفضل الله 

5-(عجز)

---------------------------------

أبي وهو يحتضر بين ذراعي ( في مستشفى أبن زايد ) طلبَ مني الهواء، أنا لم أستطع تحقيق أمنيته ، أتذكر أنني منحته دموعاً كثيرة ونحيب يدمي القلب , (رغم أيماني بالقدروأنصياعي له ) فالقلب يحزن والعين تدمع على فقدان الأحباب 

٦ -(قلق الرجال)

-----------------------------------

قبل أن يحل الصباح بساعة أو ساعتين  يستيقظ أبي، وبعد أن يصلي , يذهب الى حديقة البيت فيقوم بألأعتناء بها من رش الماء وتشذيب ألاشجار, ثم يقطع باحة البيت جيئة وذهاباً ليفتعل عملا هنا أو هناك ، لا أدري من أين كان يستخرج تلك الاعمال الصباحية ( كل يوم ) قبل موعد حظور السيارة التي تقله الى محل عمله , فيسألني بعض ألاحيان سائقها قائلا ( حسرة بقلبي أجي بيوم وألكي أبوك مستعد وينتظرني ألا يخليني أني ألي أنتظره )

7 – ( رسالة )

كل شيء فيه أرتحل الى اللامكان , كانت عيوننا تدمع وتبرق لسماع أي خبر عنه , في النهار كانت عيون الجيران تراقبنا وتتأملنا بشفقة لأنهم كانوا يعلمون عنه مالم نكن نعلم , في كل ليلة كنت أغمض عيني وأسافراليه في رحلة من الخيال , ربما غاب جسده عنا لكن أنفاسه مازالت عطره ,  العمر كان يتشظى ويمربدونه حتى جائت الرسالة  

8-(سنوات ألأسر)

----------------------------------

ثمان سنين عجاف قضاها في ألأسر , تكلم عن بعضا من معاناته هناك وكتم الكثير وخصوصا عن الوالدة , بعض من تلك ألألام كان يفضيها الي ونحن نسقي الزرع بعيدا عن البيت وفي هدوء ذلك المكان الجميل, وكان يؤكد على كونها من ألاسرار والتي مازلت أكتم الكثير منها لقساوتها .

9- نموذج من رسائلي لوالدي ( رحمه الله ) وهو في ألاسر

------------------------------------------------------

أبي العزيز 

أودُّ الكتابةَ اليك , في هذا الصّباح الحار اللاهب الذي نفتقد فيه الكهرباء الوطنية وكهرباء المولدة العمومية مما يجعل أيامنا أشبه ببروفة لأيام جهنم نعوذ بالله منها لك ولنا ولكل الناس الصالحين , أود أن أقصّ عليك أحلام اللّيلة الفائتة بكل هلاوسها وأضغاث أحلامها , أريد أن أتأكدّ منك كيف تراك تعيش بعيدا عنا , وكيف تقضي أيامك في سنين ألاسر الموحشة , كنت تشتاق الينا ونحن بين يديك , فماذا تفعل ألان في هذا الغياب القسري الحزين!

أتوقع أن تكون قد شفيت من دائي السكر والضغط هناك ,لأنني سمعت أنهم يمارسون سياسة التجويع على الجميع بالمجان ,  والجوع ( كما يعلم الجميع ) يقتل المرض , وفي بعض ألأحيان يقتل حتى المريض .

أني أتسائل هنا,هل مازلت تقضي أوقاتك ( التي تسرقها عنوة من رحم المعاناة ) مع أوراقك التي تملأها بالكتابات وألأشعارالجميلة التي ترسلها لنا في رسائلك ؟

قل لي يا أبي كيف هو صباحك وكيف تبدأه كل يوم , من هم رفاق زنزانتك وكيف تتعاملون مع بعض , أقسم أنك قد تسلّلت ليلا الى أحلامي عدة مرات , حتى أني في بعضها كنت أعلم أنني أحلم وكنت أقرص نفسي داخل الحلم لعلني أصحو ,

وعندما أصحو أحاول أن لا أفعل شيئا حتى تضل ذاكرتي رطبة بمشاهد الحلم الذي تكون أنت أغلى أشخاصة , هي أحلام أتذكر فيها وجهك المبتسم دائما , لا زال يا أبي شغفنا فيك كشمعة لا تنطفئ , تمر علينا السنين بانتظار عودتك , تتسائل أمي ؟ ترى كيف سيكون شكلك عندما تعود , ثمان سنين كافية لتغيير المظهر , لكننا كنا متأكدين من الجوهر, وجهك , أبتسامتك , لون شعرك ولحيتك , وزنك , سمعت أن جميع ألاسرى العائدين يملكون شكلا متقاربا ووزنا متقاربا ونظرة متقاربة يشوبها التوتر وألارتياب عدة أيام ولبعضهم عدة اسابيع وشهور, نحن بأنتظار عودتك على أحر من الجمر , فقط عد والباقي بعد مشيئة الله علينا

10- نموذج من رسائله لنا

-----------------------------------------

أولادي الاعزاء 

اكتب اليكم من خلف قضبان الحديد التي أكلها الصدأ وطول الذكريات , أكتب أليكم  والهم والحزن يلفني , نحن هنا نعاني ألأمرين من البعد والفراق ومن فقدان ألأمل , أعلمكم بأن ملامحي قد تبدلت , وعيوني قد وهنت من دموع البعد والقهر

أولادي ألاعزاء

لقد صرت أسيرا بين ليل وضحاه ، وهذا امر الله ، فنحن نؤمن بالقدر خيره وشره ، ساوافيكم تباعا باخباري التي الخصها بالملل وطول التفكير ، انتظر رسائلكم واخباركم  باحر من الجمر فلا تبخلو علي بها ،  

التوقيع / ابو سورميد 

ملحوظة؛  سورميد اختي ولدت بعد عودته من الاسر بسنين واسمها مركب من اول ثلاث احرف من اسامي اشقائي  (سوران  وميديا )   

11-( الموت غياب لا يصدق ) 

--------------------------------------

كنت أشفق كثيرا على أصدقائي أوعلى أحد من معارفي البعيدين، عندما أسمع بخبر وفاة أحد الوالدين , أجد الموضوع صعبا جدا , أردد في نفسي  (ماذا سيحل بفلان بعد فقدان أباه

لكنني كنت أشعر باطمئنان إذ أظن أنه من المستحيل أن يموت أبي , هم يختلفون عني تماما فهم أبائهم قابلين للموت، أما أنا فإنني أؤكد أن أبي عصيا على الموت ,

أشفق عليهم ، لكنني لا أشبههم ، ولا أنتمي إليهم .. فالذين يموت أبائهم غرباء عني و ليسوا من فئتي , أجلس في مجالس عزائهم وأنا أشعر أنني الوحيد ذا لون مختلف داخليا عن أولئك الرجال الذين يجلسون من حولي بعضهم يأكله الحزن بشكل مأساوي 

ذات يوم سقط أبي مريضا وتتابعت ألاحداث حتى تمكن منه الموت , تذكرت تمردي على فكرة استحالة موت أبي ,كم كنت ساذجا عندما اعتبرت أنني لا أنتمي إليهم أولئك الذين يموت أبائهم 

الآن أصبحت يتيما مثلهم , كان أقتناعي أن والدي قد مات وأنه من جنس البشر الذين يموتون صعبا جدا  .

كان أبي جميلا للحد الذي جعل الارض عاجزه عن حمله فخبأته داخلها ,

اللهم أرحمه وأغفر له    

12- كلام في حقة ( والدي ألأسير )

ثقيلة هي تلك السلاسل والقيود ، لكن يقينا أنك أشجع من تكبل بها وذاق فيها الأمرين وأختار الصمود ، حياتك نذرتها للوطن رخيصة وبها كنت تجود ، خلف عتمة السجن تبكي القضبان نوائب الزمان وتشتكي الظلم من الاعداء وحتى من الشركاء الذين باعوا الوطن وقبضوا لخيانتهم الثمن ، سنين وأنت  تقبع هناك بين الحقيقة والحلم ، كيف لا يثقلك التعب ، وانت تتحمل كل ذلك العتب ، الف ليلة وليلة ، وانت ترتدي البندقية كأنها سنابل ، وتتنكبها كزي مقاتل ، ألف مصنع لايسع أعداد تلك الرصاصات التي منها أطلقت

ومنها نسجت قصائدا للنصر ، وعلى عتبة الساتر

كنت تغني وتقترح الأمان والسلام للسماء وللعيال

وتقتحم المعاقل ، كنت الوحيد الباقي بين شهيد وجريح ، تقفُ شامخا ووجهك ملتفت صوب ضياء الشمس ، في زمن الصقيعِ والبرد يمتد ويسري بالدم ، وببرودته يكسر العظم  ، وخلفك يأمن تراب الوطن ، يدفعك الواجب للصمود ، وأنت لرفاقك تقود ، هو الوطن الذي من أجله كنت تدفع الثمن ، 

تبعثرت بين يديً رسائلك وأوراقها المصنوعة 

من علب مسحوق الغسيل ، سمراء  زركشتها بأناملك فدبت فيها الحياة ، ثمان سنين مرت بك 

وانت ترسلها لنا دون ملل ، ونحن نعتبرها دستور وخطة طريق ، سنين وسنين ،رسمت خطوط العمرعلى وجنتيك تجاعيد من آهات وأنين ، 

تحمل بين سطورها غربة الأوطان ودورة الزمان وغدر الاخوان ،

رسائلك تارة تحملنا إلى عالم الخيال وبها كنا بك نلتقي ، وأخرى ترمينا إلى مرً الحقيقة ، فندرك أن اللقاء مؤجل على أسنه السيوف ، فتتناثر أرواحنا متمردة ،ثم تعود وتهدأ قانعة ، تنادي بكلمات شعرية ، تخاطب تلك الحياة ،بكلامك  المتقن تعيدها برّاقة ، فتخلد أنفسنا بعد صخبها فتعيدها  الى الهدوء والسلام ،

والدي العزيز 

ربما انك لست هنا ، ولكن طيفك يسكننا 

وعيون  امي تحرسنا وهي نِعم الرفيق والصديق

ومعها تكتمل الحياة ،

لا..لا تترددي في وصفه ايتها الكلمات ،

هو الغيث المثقل بالخيرات ، هو في القلب رغم بعد المسافات ، هو الاسير ،هو السفير ،هو شعلة من نور ،

أبي الوقور

حتى في غيابك

 أنت لنا 

كل الحظور

هيثم الزهاوي

توثيق: وفاء بدارنة 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق